هذا المقال نُشر أولا في موقع مدى بتاريخ 29 فبرااير 2016
في الشهور القليلة الماضية هُوجمت مجموعة من مؤسسات المجتمع المدني العاملة في مجال الثقافة والفنون، بالتزامن مع إجراءات من الأجهزة الأمنية لتفتيش شقق وسط القاهرة، فيما يشبه المعركة الأخيرة لغلق المجال العام، فالنظام انتهى من إحكام قبضته على الإعلام ولديه مجلس نواب يدعمه، وجهاز أمني يخترق مجريات الأمور. لماذا لا ننتهي من ملف المنظمات الحقوقية!
الحملة على المجتمع المدني المصري ليست جديدة، فمنذ تَشكُّل نواة الحركة الحقوقية المصرية، يواجه المدافعون والمدافعات عن حقوق الإنسان اتهامات التخوين والتضييق الأمني. حتى في فترة التسعينيات تعرضت المنظمات لكثير من الأزمات، ثم ازداد العداء وتطورت الهجمات كما حدث لمركز “النديم” في 2004 أو ما عاصرته منذ 2011 إلى الآن. المجتمع المدني عدو دائم للأنظمة المتعاقبة.
الصورة التي يُصدرها أبواق السلطة في الإعلام كاذبة تمامًا، فالمدافعون والمدافعات عن حقوق الإنسان ليسوا أشخاصًا قادمون من الخارج بحقائب مُكتظّة بالدولارات لينفقوها على إسقاط الدولة. هم فقط منحازون لقضايا حقوق الإنسان، ويناضلون من أجلها.
دعك من إعلام الماريونت، فالمعركة بالأصل هي معركة الحق في التنظيم والحق في المعرفة، فحملة التخوين والتحريض ضد منظمات المجتمع المدني، وعلى وجه الخصوص المنظمات الحقوقية الجادة، هي بالأصل جزء من حملة مستمرة منذ عقود، خلاصتها “لو بتحبوا مصر اسمعوا كلامي أنا بس”، لا تعيروا اهتماما لحوادث الاختفاء القسري أو حوادث وعنف الشرطة ولا حرية التعبير، وضعوا حقوق العمال جانبًا، نحن نحارب الإرهاب! المنظمات الحقوقية عدو احتياطي أيضا، يمكننا حذف الإرهاب ووضع “المجتمع المدني”، حذف الإخوان المسلمين أو تركيا وقطر ووضع “المجتمع المدني” أو “الطابور الخامس” ليشمل الجميع. يحاول النظام، عبر أذرعته في الإعلام، أخذ المعركة بعيدًا عن الحقوق والحريات لمنطقة أخرى، مركزها التمويل الأجنبي والتخوين وإسقاط الدولة، مع أن أساس العداء هو انحياز المدافعين والمدافعات لقيم وممارسات حقوق الإنسان.
يبدو العداء منطقيًا، فانحيازات المنظمات الحقوقية الجادة تصطدم مباشرة بممارسات الدولة. خلال السنوات الماضية عملت المنظمات بجهد ضد انتهاكات حقوق الإنسان، وفي قضايا عديدة شائكة كالاختفاء القسري والتعذيب والمحاكمات العسكرية والاعتقالات والحقوق الاجتماعية والاقتصادية وغيرها. جهود المدافعات والمدافعين عن حقوق الإنسان تُظهر الوجه الآخر للنظام، خلافا لما يُصدّره أبواق الإعلام، كما لو كان حكامنا مستنسخين من المسيح.
هل من المنطقي أن يسمح النظام بتقارير تتناول قضايا التعذيب في مصر في حين أن التعذيب منهجية لجهازه الأمني؟ هل من المنطقي أن يسمح النظام بتوعية جمهور المنظمات بحقهم في ممارسة حرية التعبير وتعزيزه، في حين أنه يحسد نظام عبد الناصر على إعلامه؟، هل من المنطقي في دولة ترتيبها مُتدن في محاربة الفساد، أن تسمح بأنشطة ذات علاقة بالشفافية والحق في المعرفة؟ هل من المنطقي أن يسمح النظام بتقارير تفضح ممارسة الأجهزة الأمنية في مراقبة اتصالات المواطنين، وهم بأنفسهم من يستوردنها؟، الأمر لا علاقة له بعمل منظمات حقوقية مصرية تحت مظلة قوانين أخرى غير قانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية، فالمنظمات فعليًا وضعها قانوني، وتعمل ضمن تشريعات مصرية، وحساباتها المالية ومصادر تمويلها متاحة للبنك المركزي، وللضوابط الرقابية للبنوك لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، ومنصوص على أنشطتها في عقود تأسيسها. أما ما يتعلق بتلقّي التمويلات الأجنبية، فهي بالأساس ليست تهمة، وأغلب منظمات المجتمع المدني في العالم تفعل ذلك، بما فيها المنظمات في أمريكا وأوروبا، وحتى الدولة المصرية نفسها تتلقى منح ومعونات من دول أجنبية، ولم يقل أحد إنها “طابور خامس”. كما أن المنظمات الحقوقية تعمل وفقًا للمواثيق والمعاهدات التي صدقت عليها مصر، كالعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وتحت مظلة الحقوق التي كفلها الدستور المصري. كل ما في الأمر أن منظمات حقوقية مصرية رفضت أن تكون جزءًا من مسرح عرائس النظام.
على الجانب الآخر، فإن القانون الحالي لتنظيم العمل الأهلي يُعد كارثة حقيقية على استقلالية وحرية العمل الحقوقي في مصر، ففي حين أن الدستور الحالي ينص على أن “للمواطنين حق تكوين الجمعيات والمؤسسات الأهلية على أساس ديمقراطي، وتكون لها الشخصية الاعتبارية بمجرد الإخطار. وتمارس نشاطها بحرية، ولا يجوز للجهات الإدارية التدخل في شئونها”، إلا أن القانون الحالي (قانون رقم 84 لسنة 2002) ومسودات القوانين الأخرى التي طرحتها الحكومة في الإعلام خلال الفترة الماضية لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن النص الواضح للدستور، وتتجاهل مقترحات المجتمع المدني، مما يؤكد سعي النظام للسيطرة التامة على المنظمات غير الحكومية وتحويلها لكيانات تلعب دورا مرسوما مسبقا من قبل الدولة، وتجعل من الأجهزة الأمنية مديرا فعليا للمنظمات. أحد مقترحات الحكومة للقانون المنظم للعمل الأهلي جاء بتشكيل لجنة تنسيقية مكونة من ثماني جهات حكومية (بينها أجهزة أمنية مختلفة) لديها صلاحيات واسعة مثل البتّ في كل ما يتعلق بالتمويل الأجنبي للمنظمات الوطنية، و بالترخيص للمنظمات الأجنبية للعمل في مصر والتدخل في أنشطتها، وكذلك البتّ فيما يتعلق بحق المنظمات الوطنية في الانضمام لشبكات خارجية أو الانتساب لمنظمات أو هيئات دولية.
تبدو الأمور الآن متسارعة تجاه القضاء على المنظمات الحقوقية المصرية ، بدأت بإعلان تهديد وزارة التضامن الاجتماعي بمهلة 11 نوفمبر، ثم قرار غلق “مركز النديم للعلاج والتأهيل النفسي لضحايا العنف” الذي يعتبر أحد أهم وأقدم المنظمات الحقوقية المصرية، ويعمل منذ سنة 1993 على تقديم خدماته لعدة آلاف من ضحايا التعذيب وإصدار تقاريره في ذات المجال، ثم قرارات المنع من السفر لمدافعين عن حقوق الإنسان مؤخرا كجمال عيد وحسام بهجت، أو القرارات الأخرى الصادرة لنشطاء منذ نهاية عام 2014، على ذمة قضايا لا يعرفون عنها شيئا، وتفشل حتى محاولتهم لمعرفتها، وخطاب التحريض في الإعلام ضد المنظمات الحقوقية، وتخوين المدافعات والمدافعين عن حقوق الإنسان بأقلام محسوبة على النظام، بالإضافة لاقتحام مؤسسات ثقافية خلال فترة زمنية قصيرة.
المعركة ببساطة هي معركة الحق في التنظيم والحق في الدفاع عن حقوق المواطنين وحقهم في مساحات عامة مفتوحة يعبرون فيها عن أنفسهم، ولا شيء سوى ذلك.