لماذا يُعادي الرئيس الإنترنت؟

(١)

يبدو منطقيًا في دولة سمتها سرية المعلومات والقرارات، أن يعادي نظامها الوسيط الأضخم في نقل المعلومات. كما يبدو منطقيًا أيضًا الانطباع السلبي من الرئيس تجاه حرية التعبير، فخلفية الرجل التي يؤكد عليها دومًا ترى المعلومات في مطلقها خطورة.

(٢)

وبما أن النظام يقلق من المعلومات فالباحث الأجنبي القادم لمصر هو جاسوس أو يُرحّل، أما الباحثون والأكاديميون المصريون فأمامهم أنفاق وسراديب وبيوت رعب، لضمان عدم استطاعتهم الوصول لأي وثيقة من دار الوثائق، أو الحصول على تصريح لعمل بحث ميداني!

يُلخص ضابط أمن بدار الوثائق، أزمة الدولة مع المعلومات بسؤاله: “انت ضامن الوثائق اللي الطلبة بتوعك بيطّلعوا عليها هنا فيها إيه؟ إيه اللي يضمن لك إن الكتب اللي هينشروها اعتمادًا على الوثائق دي ما فيهاش حاجة تضر بأمننا القومي؟” كما ذكر الدكتور خالد فهمي ضمن مقاله: خواطر بالعامية: جوليو والجزيرتين والأمن القومي. قال الرئيس في خطابه الأخير: “أنا بتكلم دلوقتي وإنتو شايفني، لو أنا بتكلم من ورا وسائل الاتصال المختلفة إنتو مش شايفني ولا تعرفوا أنا تبع إيه، ولا بهدف من ورا ده إيه”، هذا كلام يتسق أيضًا مع قناعة الرئيس بحروب الجيل الرابع والخامس أو على حد قوله “فيه حروب، وكتائب إلكترونية، وقصة كبيرة بتتعمل”، وهو كلام متسق مع الرؤية الشاملة للفنان متعدد المواهب عمرو مصطفى، الذي يعرف عدوه جيدًا ويستخدم فيسبوك لمحاربته في عقر داره تمامًا، كما نرى صفحات رسمية لوزارة الداخلية وصفحات للمتحدث العسكري على فيسبوك.

عارفك يا عدوي وهحاربك بأدواتك.

(٣)

على الإنترنت لا تُدار الأمور هكذا. لا أظن أن هناك من أجاب الرئيس على السؤال البديهي “كيف يعمل الإنترنت؟” ربما تفهم السلطة اﻹنترنت ضمن استراتيجيتها في مواجهة حروب الجيل الرابع. تبدو قناعة “الإنترنت المؤامرة” حقيقة، وليست جملًا للتضليل. ماذا يمنع من إطلاق “كتيبتين تدخل على النت وتعملها دائرة مقفولة والإعلاميين ياخدوا أخبار وشغل منها”؟! لا أظن هناك ما يمنع صدور مثل هذا القرار، كما أنه يبدو قرارًا أسهل بكثير من قرار الجزيرتين. وهو قرار مفيد في عمومه، وأظنه سيُحدث نقله معرفية تقنية لأجهزة الدولة وتطبيقًا عمليًا يفهمهم كيف يعمل الإنترنت، ويصدمهم ربما. وسّع صدرك -ولا تأخذ فيه ضربة- واسمع مني، هناك ما يقترب من ثلاثة مليار ونصف المليار مستخدم للإنترنت، ثلثهم على الأقل يستخدم شبكات التواصل الاجتماعي، في مصر 27 مليون مستخدم لفيسبوك. كيف تمكن السيطرة على مجتمع من 27 مليون مستخدم، مفتوحين على مجتمع يضم سُدس سكان العالم؟

من فضلك، لا تستق معلوماتك من صاحب سايبر إنترنت لديه عدة عناوين بريدية إلكترونية على “ياهوو”.

حاول صُنع “دائرة مقفولة”، فلا مانع من بعض الفكاهة.

(٤)

لنضع الأمور في سياق زمني أوسع قليلًا. في بداية الألفينيات استُخدم الإنترنت كوسيط يتداول فيه المستخدمون معلومات تتعلق بالوضع السياسي المصري، قبل ظهور المدونات، فكان هناك العديد من المجموعات البريدية والمنتديات التي تتناول موضوعات تتعلق بالشأن السياسي العربي والمحلي، ومنذ بداية عام 2004 لعبت المدونات دورًا حيويًا في النقاشات السياسية ونشر وتداول الأخبار المتعلقة بالنشاط السياسي وحركات التغيير السياسي والاجتماعي في مصر، وتطور الأمر لتصبح المدونات لاعبًا أساسيًا في فضح ممارسات التعذيب من قبل أفراد الشرطة، ثم ظهرت الشبكات الاجتماعية واستخدمها الشباب في الدعوة لإضراب 6 أبريل، ثم أتت حادثة خالد سعيد والدعوة لمظاهرة 25 يناير وتطورها. نحن أمام وسيط عدو للأنظمة يلعب الدور الأول في الحشد وفي تشكيل الرأي العام كأداة أساسية في تداول المعلومات. منطقي أن يخاف النظام منه.

ضع في اعتبارك أن تسريبات ويكيليكس وإدوارد سنودن أعطت للإنترنت أبعادًا أخرى جعلت أعتى الدول الديمقراطية تنتفض رعبًا من وحش المعلومات القادم من الإنترنت. أظن الأمر يحتاج لأكثر من كتيبتين.

(٦)

على أي حال، يبدو كلام الرئيس متسقًا مع ممارسات أجهزته ووزاراته، فتسريبات شركة هاكينج تيم الإيطالية تُشير لقيام وزارة الدفاع في مصر بالبدء في استخدام برنامج RCS منذ 2011. وتشير السجلات المالية للدفعات المالية المختلفة إلى النطاق الزمني للصفقة، من حيث شراء الرخص والتجديد والصيانة منذ 2011 إلى 2017. ربما كنت واحدًا من المُراقَبين وأنت تقرأ.

(٧)

الأزمة هي حرية التعبير. كان الرجل واضحًا لأبعد الحدود، نحن سبب أزمة ريجيني، لأننا تحدثنا عن الموضوع بشبكات التواصل الاجتماعية، نشر المعلومات حول القضية هو السبب، هو يرى هذا ويبدو مقتنعًا به. أما أزمة تيران وصنافير فقد رأى الرئيس أن يحجب المعلومات المتعلقة بالمفاوضات حول الجزيرتين ليتجنب إيذاء مشاعر الرأي العام في مصر والسعودية! يبدو أن الرئيس ورجاله تعلّموا من أزمة ريجيني وعرفوا جيدًا أن الأزمة في المعلومات وتداولها عبر الشبكات الاجتماعية.

الأزمة هي حرية الكلام: “ده في ناس بتطلع الأوتوبيسات والميكروباصات تكلم الناس وتقولهم الحكاية كذا وكذا، الكلام ده كل المصريين في الشارع عارفينه، هدفهم إن الكتلة دي تفك”، وهي الجملة التي يمكن أن نعتبرها تطورًا لسابقتها: “بتحبوا مصر صحيح؟.. لو بتحبوا مصر اسمعوا كلامي أنا بس”. تبدو قناعة الرئيس واضحة، إذا  سمعتم من غيره فضعوا في اعتباركم أنهم مغرضون.

طالب الرئيس بأن يضاف إلى حقوق الإنسان الحق في العمل والمسكن والتعليم الجيد، والحق في الوعي الحقيقي، وأكمل: “قضية تقدم مصر هي حرية التعبير ولا العمل؟ تقدم مصر ليس حرية التعبير فقط”.

ما أعلمه أن الحق في العمل والحق في السكن والحق في التعليم، هي حقوق راسخة بالفعل ولا تحتاج لـ “إضافة”، أما ما يتعلق بحق الإنسان في وعي حقيقي فلا يأتي إلا بحرية التعبير، والحق في الوصول للمعلومات وحرية تداولها. وأظن أن مصر لن تتقدم إلاّ باحترام حقوق وكرامة المواطن.

(٨)

في حديثه عن أزمة تيران وصنافير قال الرئيس: “رجاء. ما حدش يتكلم في الموضوع ده تاني”، ولأن التكرار يُفيد التوكيد، فقد قالها الرئيس مرتين.

ماذا ننتظر من نظام يحسد عبد الناصر على إعلام مضلل كذب على المصريين وقت النكسة؟

(٩)

لماذا يعادي الرئيس الإنترنت؟

أقول تاني؟

لماذا يعادي الرئيس الإنترنت؟

لأن المعلومات قوة.

أقول تاني؟

لأن المعلومات قوة.