من سنين طويلة وأنا مقتنع بالبرمجيات الحرة، ومؤمن إنها وسيلة من وسائل التحرر الرقمي.
الفكرة فعلاً كانت ملهمة..أي حد، من أي مكان في العالم، يقدر يفتح الكود، يدرسه، يطوّره، ويوزعه تاني، من غير ما يبقى محكوم بقيود الشركات الكبيرة اللي بتحبس البرامج وبتقفلها.
بس مع الوقت، وخصوصًا لما بدأت أعيد التفكير في فكرة البرمجيات الحرة، بدأت تطلعلي أسئلة ملهاش إجابة..مين اللي فعلاً بيشارك؟ ومين اللي بيستفيد؟ ومين اللي أصلاً عنده القدرة يشارك؟ ومين اللي فعليًا بيتحكم في الاتجاه والقرار؟
اللي شدّني في الأول كان الخطاب اللي بيكرّر “الحرية”. حرية استخدام البرنامج، حرية تعديله، حرية توزيعه. كلام حلو فعلا.
بس لما فكرت مؤخراً مرة تانية، لقيت إن الحرية دي مش متاحة في المطلق… اللي يقدر يشارك فعلًا، هو اللي عنده وقت فاضي، إنترنت كويس، كمبيوتر حديث، مهارات تقنية محترمة، لغة إنجليزية كويسة، وراحة ذهنية بعد الشغل أو الدراسة.
لكن اللي بيشتغل طول اليوم ، أو اللي مش بيعرف إنجليزي، أو اللي مش قادر يدفع تمن استضافة مشروعه، الحرية دي بالنسبة له نظري، مش واقعي.
وبالتالي الحرية اللي بنتكلم عنها في البرمجيات الحرة، في الحقيقة، هي امتياز، مش حق. وعلشان كده مينفعش نفصلها عن الواقع الطبقي اللي احنا عايشين فيه.
وبالمناسبة فيه فرق بين “البرمجيات الحرة” و”المصادر المفتوحة”.
البرمجيات الحرة بتشوف إن البرامج المغلقة شكل من أشكال الاستبداد، وإن المستخدم لازم يتحرر من الشركات اللي بتتحكم في أدواته.
يعني مشروعها كان أخلاقي وسياسي، حتى لو كان فرداني.
أما المصادر المفتوحة، فقالت خلينا نتكلم بلغة السوق، الكود المفتوح بيخلّي البرامج أحسن، التطوير أسرع، والتكاليف أقل.
يعني ببساطة، بدل ما نحرر الناس، نحرّر الابتكار لصالح الشركات. تحوّل المشروع من محاولة للتحرر، لمحاولة لتحسين الإنتاجية.
فطبعا ممكن نقول إن البرمجيات الحرة أكثر جذرية من المصادر المفتوحة، لكن حتى مشروع البرمجيات الحرة نفسه، مع نواياه الإيجابية ضد الاحتكار، ماكانش مشروع ثوري.
هو ما اتكلمش عن الطبقات، ولا عن علاقات الإنتاج، ولا عن إعادة توزيع فائض القيمة.
لكن بيحاول يحرر الفرد، بس من غير ما يشوف إن الفرد ده محكوم جوه نظام اقتصادي أكبر.
فالمشروع فضل تحرري وفرداني، لكن مش جماعي، وده خلاه يقف في النص.. ضد الشركات، آه، بس من غير ما يمس النظام اللي مخلّي الشركات دي تشتغل كده أصلًا.
أنا كمان كنت من الناس اللي بتحب تردد “إحنا مجتمع عالمي للمطورين”.
بس لما ركزت شوية، لقيت المجتمع ده مش عالمي بالشكل اللي بنتصوره، ولا حتى أفقي.
فيه ناس فوق، عندهم سلطة القرار والتأثير، وناس تحت بيشتغلوا وبيختفوا.
السلطة دي مش بس في اللي ماسك الكود، لكن كمان في اللي لغته الانجليزية أحسن، واللي عنده وقت يحضر مؤتمرات، واللي بيشتغل في شركة كبيرة.. إلخ.
يعني حتى جوه المشروع اللي بيرفع شعار المساواة، فيه تفاوت طبقي حقيقي.
طبعا في الآخر، أنا لسه مؤمن إن المعرفة لازم تتشارك، ولسه ضد الاحتكار بكل أشكاله، ومع المشاعات الرقمية.
بس بطلت أفتكر إن المصادر المفتوحة، أو حتى البرمجيات الحرة، حل جذري.
الكود المفتوح، لوحده، أو الترخيص الحر، مش كفاية.
لو ما فككناش علاقات الملكية، والسيطرة، والتوزيع، هيفضل الاستغلال موجود، لكن مش واضح كفاية.