غالبًا ما بيتم التعامل مع التكنولوجيا كأنها مجرد أدوات محايدة. لكن أول ما نحطها في سياقها الحقيقي داخل المجتمع، بتظهر وظيفتها الأعمق كعنصر أساسي في تنظيم السلطة والمعرفة والعمل، وبتشتبك مع البُنية الاجتماعية في إعادة تشكيل الواقع نفسه.
اللي بيحصل حاليًا مش مجرد “استخدام” للتكنولوجيا، لكن عملية مستمرة لإعادة هندسة العالم من خلالها. التطبيقات بترتب الوقت من جديد، والخوارزميات بتقرر الأولويات، والمنصات بتحدد إيه يظهر وإيه يختفي. بالشكل ده، التكنولوجيا في لحظتها الحالية بتشتغل كبُنية تحتية وكبُنية فوقية في نفس الوقت. أداة مادية بتنظم الإنتاج والتواصل، ومصنع للوعي بيصيغ المعنى وبيعيد إنتاج الإيديولوجيا. الوظيفة المزدوجة دي نتيجة لتطور قوى الإنتاج نفسها، اللي خلت الكود والخوارزمية أدوات إنتاج وسلطة في نفس الوقت.
طبعا المشكلة مش في التكنولوجيا نفسها، لكن في البُنية اللي بتنتجها وبتوجّه استخدامها. الكود اللي بيتكتب جوه كيانات مغلقة ما بينتجش خدمات ومنتجات محايدة، لكن بينتج أنظمة تصنيف، وفرز، ومراقبة. كل قرار تقني — حتى لو بسيط زي ترتيب نتائج البحث أو تصميم زر — هو في جوهره قرار سياسي، بينعكس في الواقع كفعل سلطوي، بيحدد مين يبان ومين يتهمّش، مين يتراقب ومين يُستثنى، ومين يتضخّم ومين يُنسى.
الفضاء الرقمي النهارده، باعتباره امتداد لبُنى احتكارية، بيحصر الفعل داخل قوالب مصممة مسبقًا، والقرارات المصيرية اللي بتأثر على المجتمع بتتخذها شركات وبتتقدَّم في صورة “قرارات تقنية” أو “ذكية” ومحايدة، بينما هي في جوهرها قرارات سياسية من الدرجة الأولى. وعلشان كده، الناس ما بيكونش عندها مساحة حقيقية للسؤال أو النقاش أو الرفض — لأن الشكل العام بيخلي كل حاجة تظهر كأنها “طبيعية” و”مفيش بديل”. وده اللي بيخلي النظام يعيد إنتاج نفسه بهدوء، من غير مقاومة واضحة.
ولأن التكنولوجيا دلوقتي خارجة من منطق السوق، ومن غير رقابة مجتمعية حقيقية، فهي هتفضل تعيد إنتاج نفس علاقات التراتب والتهميش والتراكم اللي نشأت جواها. وطالما المسار ده مستمر، فالكلام عن عدالة الوصول أو المساواة أو مناهضة العنصرية أو التنمية أو أي حاجة تانية، مش هيكون لها لازمه. لازم نفكك المنطق اللي بيحكم التكنولوجيا، ونفهم مكانها داخل النظام، ونغيّر الشروط اللي بتتخلق فيها.
وبناءً عليه، ما ينفعش نسيب تشكيل المستقبل الرقمي في إيد مجموعة ضيّقة من المطورين ورجال الأعمال. التكنولوجيا مش مسألة تقنية بس، لكنها قضية سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، والناس لازم يكون ليه دور في مساءلة اللي بيحصل، وفي رسم اتجاه التطوير، مش بس استهلاك نتايجه.
علشان كده، البديل الحقيقي مش إن الناس “تحسن استخدام” التكنولوجيا، لكن إنها تشارك في إنتاجها وتوجيهها، وتستعيد دورها كقوة فاعلة في تشكيل الكود واتجاهه. لأن القضية مش في الاستخدام، لكن في منطق الإنتاج والتوزيع. التكنولوجيا اللي بتتخلق من غير مشاركة جماعية مش هتنتج غير نفس البُنى اللي خرجت منها.. تراتُب، وفرز، وتراكم، وطبقية.