في ستينيات القرن الماضي، بمدينة نيويورك، كان هناك طالب بالثانوية يُدعى ريتشارد ستولمان. ربما لم تسمع عنه من قبل، لكن بالتأكيد سمعت عن لينكس. جيد، إذا كنت بالفعل قد سمعت عن لينكس فدعني أؤكد لك أن ستولمان ليس له أي علاقة بلينكس.
في أجازة دراسته الثانوية حصل ستولمان على وظيفة في معمل آي بي إم بمدينة نيويورك، الوظيفة كانت عبارة عن مهمة لكتابة برنامج للتحليل الرياضياتي. يبدو أن الأمور كانت معقدة كثيرا وليست كما هي الآن، فلم يكن هناك جوجل وفيسبوك ميكروسوفت وأبل، وأنظمة تشغيل بنوافذ سهلة الاستخدام. فعليا لم يكن هناك من يستطيع الذهاب لمتجر وشراء حاسوب يضعه في حقيبة خلف ظهره، ولا حتى هناك من يقوم بـ“تجميع كيسة حاسوب” أو شراء واحدا مستورد.
التحق ستولمان بجامعة هارفارد بعد إنهاءه المرحلة الثانوية،وفي عام 1971 أصبح مبرمجا في مختبرات معهد ماساشوستس. يبدو الاسم غريب، ما زلت أضع اسم هذا المعهد في جوجل قبل كتابته حتى لا أخطئ حروفه. بالمناسبة هذا المعهد يرتبط به قرابة الثمانيين من الحائزين على جائزة نوبل، من خرجين أو باحثين أو أساتذة.
لاحقا عمل ستولمان كهاكر في مختبرات معهد ماساشوستس. في هذا الوقت المبكّر لم يكن الهاكر تعني شيئا سيئا، بل على العكس، أُطلق هذا اللفظ على المبرمجين المتميزين. وتأثير الهاكرز الإيجابي في تطور التقنية والإنترنت والبرمجيات يفوق تأثير كبريات الشركات التي نسمع عنها الآن. لينكس مثلا قام برمجها مجموعات من الهاكرز.
ما الرابط بين ستولمان ولينكس؟
كانت الأمور على ما يرام في معهد ماساشوستس، ويعمل ريتشارد ستولمان وزملاءه الهاكرز على أجهزتهم وحواسيبهم دون قيود وبحرية، إلى أن استيقظ ستولمان وزملاءه ذات يوم ليجدوا قاعدة جديدة، حيث استخدم المعهد نظام كلمات المرور لتحديد من يستخدم أجهزة المختبر. يبدو أن ستولمان أُزعج جدا من هذا النظام، لدرجة اخترق النظام وأرسل للمستخدمين كلمات مرورهم بالبريد الإلكتروني واقترح عليهم تغيير كلمات مرورهم إلى كلمات مرور فارغة بحيث يستطيع الآخرون استخدام الأجهزة بحرية دون الحاجة لكلمة مرور. يٌقال أن 20% من العاملين بالمختبر استجابوا لدعوة ستولمان.
في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات بدأت ثقافة الهاكرز في الاضمحلال. ثقافة الهاكرز ببساطة هي أن كل هاكر (مبرمج محترف) كان يقوم بمشاركة برامجه مع الآخرين، دون وجود عوائق تتعلق بالملكية الفكرية أو منع النسخ أو منع الاطلاع على الشيفرة المصدرية للبرمجيات.
الشيفرة المصدرية هي الأوامر والتعليمات المكتوبة بلغة من لوغات البرمجية التي يتكون منها أي برنامج حاسوبي ، حيث إنه يتعذر تعديل أو إعادة برمجة أو تحويل البرنامج إلى أي لغة برمجة أخرى من غير الملفات المصدرية للبرنامج. من ويكيبيديا.
في عام 1980 مُنع الهاكرز (اتفقنا أن الهاكر هو المبرمج المبدع) ومنهم ريتشارد ستولمان، من الإطلاع على الشيفرة المصدرية لبرنامج لطابعة ليزر جديدة موجودة بالمختبر. كان ستولمان قد عدّل برنامج الطابعة القديمة بحيث تٌرسل رسالة إلى البريد الإلكتروني للمستخدم عندما تتم عملية الطباعة، بحيث يعلم ما إذا كانت الطباعة تمت بالفعل أم علقت الطباعة لسبب ما. الأمر كان أن الطابعة موجوده في طابق مختلف وتعديل هذا البرنامج سهّل الأمور كثيرا على ستولمان وزملاءه. لم يستطع ستولمان تعديل برنامج الطابعة الجديدة، لأنه لم يستطع الحصول على شيفرتها المصدرية.
ما حدث بعد ذلك أن ستولمان قرر أن يُنشئ نظام تشغيل كامل وقائم بذاته يستطيع الجميع أن يستخدمه دون أي عوائق وبحرية تامة، واستقال في سنة 1984 من مختبر معهد ماساشوستس ليتفرغ تماما لهذا المشروع.
من المفارقات في هذه السنوات، أنه في حين كان ستولمان يحاول نشر البرمجيات بحرية بما في ذلك شيفرتها المصدرية والدفاع عن حرية استخدام البرمجيات ونشرها ودراستها وإعادة توزيعها، نشر بيل جيتس رسالة مفتوحة للهواة عبّر فيها عن استيائه من خرق حقوق النشر الذي يحدث في سوق الهواة ولاسيما الذي يتعلق ببرمجيات شركته.
أعلن ستولمان عن مشروعه تحت اسم (جنو) في سنة 1985، وكتب بيانا قال فيه:
أرى أن القاعدة الذهبية أنه إذا أعجبني برنامج فيجب أن أشاركه مع من يحبونه. يريد بائعو البرمجيات تفريق المستخدمين والسيادة عليهم بحمل المستخدمين على الموافقة على عدم مشاركة البرامج مع الآخرين. إنني أرفض تمزيق الود بيني وبين المستخدمين الآخرين بهذه الطريقة. لا ينبغي علي –بضمير حي– أن أوقع اتفاقية سرية أو اتفاقية ترخيص برمجية. كنت أقاوم مثل هذه الأساليب غير الأخلاقية عندما كنت أعمل في مختبر الذكاء الاصطناعي، لكنهم تمادوا لدرجة أنني لم أستطع أن أبقى في معهد يتبع هذه الأساليب معي وبرفض مني.
الأمر ببساطة أن ستولمان أرد نظام تشغيل يعطي للمستخدمين حرية في استخدامهم عموما.
خلال هذه الفترة كان نظام التشغيل المنتشر والأكثر قربا من المستخدمين هو نظام يونكس، والذي كان مملوكا لشركة AT&T. قام ستولمان بالبدء في بناء نظامه الجديد “جنو” بمحاكاة نظام “يونكس” حيث اتبع طريقة بسيطة في ذلك، حيث يقوم ستولمان وزملاءه في مشروع (جنو) باستبدال كل وحدة في نظام التشغيل (يونكس) بأخرى من نظام تشغيل (جنو) وهكذا حتى الانتهاء من النظام. استعان أيضا ستولمان ببعض البرمجيات التي كانت موجودة بالفعل وتتطابق مع أفكاره حول حرية الاستخدام.
سنوات ما بعد تأسيس “جنو” كانت مليئة بالنشاط، أشاع ستولمان مبدأ “الحقوق المتروكة” كآلية قانونية لحماية حقوق التعديل وإعادة توزيع البرمجيات الحرة، وكسب العديد من الداعمين والمؤمنين بالقضية، حتى جاء عام 1989وكتب ستولمان “رخصة جنو العمومية” وهي أحد أهم رخص استخدام البرمجيات التي ما زالت تستخدم حتى الآن. رخصة استخدام البرمجيات هي كعقد بين المبرمج أو الشركة أو المستخدم النهائي.
رخصة جنو العمومية (بالإنجليزية: GNU General Public License ؛ تختصر GPL) رخصة برمجيات حرة مستخدمة على نحو واسع، كتبها أصلا ريتشارد ستولمن لمشروع جنو. رخصة جنو العمومية هي أشهر مثال معروف للحقوق المتروكة المتشددة التي تطالب أن ترخّص الأعمال المشتقة تحت نفس الرخصة، وبناءً على هذه الفلسفة، يقال أن رخصة جنو العمومية تزيد عائدات البرنامج الحاسوبي من تعريف البرمجيات الحرة، وتستخدم الحقوق المتروكة لضمان الحرية الفعلية، حتى عندما يُغيّر العمل أو يضاف إلى آخر. هذا يختلف عن رخص البرمجيات الحرة المتساهلة التي تمثل رخص بي إس دي مثالا قياسيا لها.
لم تسر الأمور على ما يرام وتأخر النظام الذي سعى لإنجازه ستولمان، واجه فريق عمل مشروع جنو بعض الصعوبات. فبحلول التسعينيات كانت نظام (جنو) قد اكتمل باستثناء (النواة)
النواة هي قلب كل نظام تشغيل للحاسوب حيث تقوم بدور حلقة الوصل بين عتاد الحاسوب وبرمجياته وتقوم أيضا بعملية التحكم بمصادر الجهاز. كحلقة وصل بين العتاد والبرمجيات تقوم النواة بتوفير طبقة يمكن للبرمجيات الاتصال بها مما يوفر إمكانيات الحاسب الآلي للبرمجيات التي يتحكم فيها المستخدم.
عمل ستولمان ورفاقه على تطوير نواة للنظام بعد منتصف الثمانينيات، لكنهم توقفوا بعد مواجهة مجموعة من المشاكل التقنية في النواة المختارة. انتقلوا بعدها –في 1988- لتطوير نواة أخرى تدعى “ماخ” وظلّوا يعملوا عليها لمدة طويلة جدا وسُميت النواة الجديد بإسم“هُرد“.
في جانب آخر من العالم، اقتنى لينوس تورفالدز الطالب بجامعة هلسينكي في فنلندا حاسوبا جديدا، يعمل بنظام ميكروسوفت دوس. لم يروق هذا النظام للينوس. حاول أن يستخدم نظام التشغيل يونكس، إلا أنه لم يستطع تحمّل التكلفة المالية لشراء النظام، لذا اتجه لاستخدام نظام اسمه “مينيكس” .في عام 1990 قرر لينوس أن يقوم ببناء نظام تشغيل خاص به، وأرسل بريدا إلكترونيا على أحد المجموعات البريدية الخاصة بمجتمع من المبرمجين يقول فيها:
مرحباً بجميع من يستخدم نظام مينكس، اعمل الآن على نظام تشغيل (مجاني) (مجرد هوايه، لن يكون كبير واحترافي مثل جنو) للاجهزه المشابهة لـ 386(486) AT. هذا النظام بدأ منذ شهر أبريل، وبدأ يجهز الآن. اتمنى ان تخبروني عن الأشياء التي احببتموها\لم تحبوها في مينكس، ونظامي يشبهه إلى حد ما (نفس الفلسفه في طبقات نظام الملفات (في الحقيقة لأسباب عمليه) بين الأشياء الأخرى). حالياً قمت بنقل bash(1.08) وgcc(1.40)، والواضح انه يعمل. هذا يدل على انه سوف احصل على شيء عملي بعد القليل من الأشهر، واحب ان اعرف ما هي الميزات التي يحتاجها الناس. اي اقتراحات مُرحب بها، لكن لن اعد بل سوف اطبّق
يبدو من الرسالة أن لينوس لم يكن يعلم أنه يساهم في بناء واحد من أعظم أنظمة التشغيل!
بالمناسبة، رخّص لينوس نواته (لينكس) برخصة جنو العمومية التي كتبها ريتشارد ستولمان.
يبدو المجتمع المتعاون والمؤمن بمشاركة المعرفة قادر على صنع إنجازات خيالية. فبعد أن قام لينوس بنشر النسخة الأولى من نواته وتطويراتها اللاحقة، هناك مبرمجون آخرون تعاونوا لحل مشكلة عدم إكتمال نواة ريتشارد ستولمان، وطوّروا النواة لينكس لتعمل مع البرمجيات واجزاء النظام التي طورها ستولمات ورفاقه في مشروع جنو، وأخرجوا نظاما منهما، يُسميه البعض خطأ (لينكس) فقط، دون إشاره إلى أي من اسهامات مشروع “جنو” في خلق هذا النظام.
لاحقا قامت المجموعات المختلفة من المبرجين بتخليق أنظمتهم الخاصة من برمجيات مشروع جنو ونواة لينكس. سُميت هذه الأنظمة توزيعات جنو/لينكس.
يقول ستولمان في أحد مقالاته:
لحسن الحظ، لم يكن علينا انتظار هُرد بفضل لينكس. عندما كتب تورفالدس لينكس، حلّت محل آخر فجوة جوهرية في نظام جنو. استطاع الناس وقتها ضم لينكس مع نظام جنو لإنشاء نظام حر كامل: إصدار من نظام جنو مبني على لينكس؛ أو للاختصار نظام جنو/لينكس.
أظن أصبح مفهوما لماذا لا يوجد علاقة بين ريتشارد ستولمان ولينكس.
النسخ الأولى من توزيعات جنو/لينكس لم تكن بسهولة الأنظمة الحالية، الموضوع كان أعقد بكثير. إلا أن هناك ثلاث توزيعات يمكن اعتبارهم المحطات الرئيسية في تطوير توزيعات جنو/لينكس:سلاكوير(1993) ودبيان (1993)وريد هات (1994).