في فبراير/شباط الماضي، أقرت لجنة الاتصالات الفيدرالية في الولايات المتحدة الجديدة قواعد جديدة لخدمات الإنترنت. من هذه القواعد، إعادة تعريف خدمة الإنترنت كمرفق عمومي بدلًا من تعريفها كخدمة معلوماتية وإلزام مقدمي خدمة الاتصال بالإنترنت بمنع تقليل أو زيادة سرعة الاتصال مقابل رسوم، ومنع إبرام اتفاقيات مع شركات تقديم المحتوى لمنحهم أفضلية بتوفير حركة مرور أكثر سلاسة لهم عبر الإنترنت. اعتبر المستخدمون والنشطاء المهتمون بالإنترنت هذه القواعد الجديدة انتصارًا للشبكة وللقيم التي بُنيت عليها، فالأمر في النهاية يتعلق بحيادية الشبكة، كقيمة ترتبط بحرية المستخدم وحقه في التعددية، وكمؤثر قوي في مجريات الاقتصاد ومستقبل الشركات الناشئة.
في مقال «ماذا يعني انتصار «حيادية الشبكة» في الولايات المتحدة؟» المنشور على «لاسلكي» في حبر، عُرّف مبدأ حيادية الشبكة بأن تكون (كافة البيانات سواسية على الشبكة بغض النظر عن مالكها). تبدو الجملة بسيطة في تعاطيها مع مبدأ الحيادية، وشاملة لمعنى القيمة الأساسية لهذا المبدأ، المساواة:
لفهم هذا المبدأ، تخيّل أن البلدية قررت أن تحجز مسارب شوارع المدينة لمن يدفع أكثر من الشركات والمحال التجارية. فمثلًا، مقابل مبلغ مالي يدفعه سوق تجاري، يتم تخصيص مسرب للسيارات التي تقصده حتى تصل إليه بسرعة أكبر. تنتهي هنا حيادية الشوارع بالنسبة لمن يستخدمها بتمييز السيارات التي تقصد ذلك السوق عن غيرها. أما باقي المحلات التجارية التي لا ترغب الدفع، أو الناس الذين لا يرغبون التردد على ذلك السوق، فلهم المسرب البطيء. إذا كنت كسائق ترفض أن يتم تحديد سرعتك ومسارك حسب وجهتك، فأنت بنفس الطريقة سترفض أن يتم تحديد سرعتك على الإنترنت حسب الموقع أو المحتوى الذي ترغب بالوصول اليه.
يومًا بعد الآخر، تأخذ قضايا حيادية الشبكة مساحة أكبر من النقاش والجدل، فثمة تقاطعات كثيرة بين حيادية الشبكة ومجالات أخرى كالاقتصاد وصناعة التكنولوجيا والفُرص أمام الشركات الناشئة، وحتى قيم المساواة والحق في المعرفة وتداول المعلومات. مكَّنت حيادية الشبكة شركات مثل غوغل وفيسبوك وغيرهما من أن تتحول من شركات ناشئة ذات إمكانيات وموارد متواضعة إلى شركات عملاقة في عدة سنوات، لديها مليارات المستخدمين الذين يدرّون عليها وعلى اقتصاد بلدها مليارات الدولارات سنويًا. هؤلاء وغيرهم لم ينجحوا إلا بسبب حيادية الشبكة التي خوَّلت للمستخدمين الوصول لخدماتهم بسهولة ودون قيود.
شركات اتصالات هندية ضد حيادية الشبكة
سابقًا، كان جميع مستخدمي الإنترنت في الهند قادرين على التعامل مع الخدمات المُتاحة على الشبكة دون تمييز لمحتوى أو خدمة عن الأخرى. لكن مع نهاية السنة الماضية، وبعد أن أعلنت شركات اتصالات هندية عن فرض رسوم إضافية على إجراء المكالمات الهاتفية عبر الإنترنت باستخدام تطبيقات تُتيح هذه الخدمات كواتساب وسكايب وغيرهما؛ احتدم النقاش حول قضايا حيادية الشبكة في الهند.
في 6 أبريل/نيسان الماضي، أعلنت شركة Airtel عن منصة جديدة تُقدمها باسم «Airtel Zero»، وهي منصة تسويقية تهدف للسماح للمستخدمين بالوصول إلى العديد من التطبيقات مجانًا، في حين أن على أصحاب هذه التطبيقات الدفع لشركة Airtel مقابل حصول المستخدم على خدماتهم مجانًا. يعني ذلك أن الشركات الكبيرة فقط هي التي ستستطيع الاشتراك في هذه المنصة في حين أن الشركات الناشئة والصغيرة لن تستطيع ذلك. فعليًا، هذه الممارسة تقتل المنافسة.
تمييز خدمة على الأخرى يعطي المستخدم تجارب متفاوتة مع الخدمات المتنافسة، فإذا كان تطبيق معين يدفع لمقدم خدمة الإنترنت مقابل الوصول المجاني له، أو تسهيل أو تسريع الوصول إليه، فإن المستخدم سيفضلّه عن التطبيقات المنافسة التي لم تدفع، بل ربما لن يستطيع الوصول لها أساسًا. إن اشتراط الدفع ينقل التنافس بقوة الفكرة والخدمة إلى التنافس على أساس القدرة على دفع مزيد من النقود. التطبيق الأكثر قدرة على دفع مزيد من المال سيزاحم منافسيه، ليس بمزيد من الخدمات والعروض التي تصُب بمصلحة المستخدم، لكن بالقضاء على إمكانية وصول المستخدم للتطبيقات الأخرى.
يدخل فيسبوك إلى هذا الجدل بمشروعه Internet.org الساعي لتوفير إنترنت مجاني في عدد من الدول النامية والمناطق التي لا تتوفر فيها خدمة إنترنت، بحيث يستطيع المستخدم الوصول لمجموعة من الخدمات والمواقع المحددة، على رأسها فيسبوك نفسه، كمحاولة من الشركة لزيادة عدد مستخدميها. كان فيسبوك قد أعلن عن توفير هذه الخدمة في الهند، وهو ما اعتبره المدافعون عن حيادية الشبكة خطوة أخرى لانتهاك الحيادية، حيث أن المشروع لا يُوفّر اتصالات شاملة للإنترنت، بالإضافة لمخاوف أخرى عديدة تتعلق بالخصوصية والأمان الرقمي للتعامل التجاري عبر الخدمة، ما دفع العديد من شركات التجارة الإلكترونية وصناع المحتوى إلى الانسحاب من مبادرة فيسبوك بسبب انتهاك مبدأ الحيادية وعدم التعامل مع جميع المواقع الإنترنت على حد سواء، من هذه الشركات موقع Cleartrip.com، وقناة NDTV وتطبيق Newshunt.
يرى المدافعون عن حيادية الشبكة في الهند، أن اختراق المبدأ سينتج عنه إشكاليات رئيسية، تتمثل في رقابة أطراف من القطاع الخاص على الإنترنت دون سند قانوني، ما سيضر بالابتكار ويضع قيودًا على القادمين الجدد إلى مجال الاستثمار في التكنولوجيا، بالإضافة للضرر الذي سينتج عن غياب التنوع بسبب تقييد حرية الوصول لبعض الخدمات على حساب الأخرى. هذه الممارسات تُدمّر الشبكة والقيم التي ساهمت في ظهور العديد من الشركات التي تدعم الاقتصاد المحلي، سواء في الهند أو غيرها من الدول التي يحاول فيها مقدمو خدمات الاتصالات الحصول على ربح من مقدمي المحتوى على الشبكة ومن المستهلك في نفس الوقت.
حملات المستخدمين المضادة ودعم حيادية الإنترنت
يتوسع الجدل وتتنوع حملات المستخدمين الداعمة للحيادية، لتظهر ردود أفعال مختلفة من شركات الاتصالات الهندية. تَسُوق هذه الشركات حجة أن التطبيقات كثيفة الاستهلاك للبيانات كفيسبوك وتويتر وانستجرام وسكايب وفايبر وغيرها تتطلب بنية تحتيه أقوى. لكن الأمر يتعلق بشكل مباشر بحق المستخدمين في التمتع بحرية الاستخدام التي دفعوا مقابلها. ما تطرحه شركات الاتصالات في الهند سيجبر المستخدمين على دفع مزيد من النقود للحصول على حزم بيانات وخطط أسعار للوصول إلى مواقع وخدمات معينة.
ترى شركات الاتصالات الهندية أن خدمات كواتسآب وسكايب وغيرهما تأكل جزءًا ضخمًا من أرباحها، لاعتماد المستخدمين على هذه التطبيقات في المكالمات الصوتية والرسائل القصيرة. ويرى المدافعون عن حيادية الشبكة أن الأمور تختلف عن ما يطرحه مقدمو خدمات الاتصالات، فالمستخدم الذي يدفع مقابل الحصول على خدمة الإنترنت حر في تفضيلاته تجاه المحتوى أو التطبيقات أو الخدمات المتاحة ولا ينبغي وضع أي قيود أو عراقيل لوصوله لأي منها. هذا ما دفع العديد من المستخدمين والمدافعين عن حيادية الإنترنت لشن حملات متتالية على الشركات المتورطة في انتهاك حيادية الشبكة.
تدخلت هيئة تنظيم الاتصالات في الهند، وأصدرت ورقة استرشادية حول الموضوع، رأى فيها المدافعون عن حيادية الشبكة أن الهيئة تلعب دورًا مشجعًا لشركات الاتصالات على خرق مبدأ الحيادية، بل والسيطرة على الإنترنت. هُوجمت هذه الورقة بشدة من قبل مجموعات مستقلة من المستخدمين ومنظمات مجتمع مدني، كمركز الإنترنت والمجتمع، وحركة البرمجيات الحرة في الهند، ومركز قانون البرمجيات الحرة، ومنظمة تقنية المعلومات من أجل التغيير، ومؤسسة الإعلاميين وغيرهم من المستخدمين والمدونين. ورأى هؤلاء أن ما جاءت بهذه الورقة من حجج تدعم اتجاه الشركات للقضاء على حيادية الشبكة، خاصة وأنها تعرض وجهة نظر تؤيد ما تسعى له الشركات لخرق حيادية الشبكة فيما يتعلق بتطبيقات التواصل وإجراء المكالمات الهاتفية عبر الإنترنت. وقد احتوت الورقة على عدد من الحجج مثل أن الاتصال الهاتفي على الإنترنت لا يتبع بروتوكولًا قياسيًا كما في الخدمات الصوتية التقليدية، وأن هذا خطر على الأمن القومي وحماية البلاد من الإرهاب لأنه من الصعب تتبع مصدر المكالمات على الإنترنت أو إنفاذ القوانين المتعلقة بالمراقبة القانونية للاتصالات، وأن تطبيقات الإنترنت يمكنها أن تؤثر على الخصوصية الثقافية لأن أغلبها يعمل من خارج البلاد، وأن هناك طرق مختلفة للتواصل يمكن أن تؤثر في النسيج الاجتماعي والأخلاق. وساقت الورقة أيضًا حجة الحفاظ على خصوصية المستخدمين بزعم أن نقل المعلومات الشخصية على الإنترنت هو تصرف محفوف بالمخاطر بسبب بنية شبكة الإنترنت المفتوحة، وهي نفس الحجج التي تستخدمها الأنظمة الاستبدادية دومًا لفرض سيطرتها على الإنترنت. يُذكر أنه لا توجد فعليًا قوانين لحيادية الشبكة في الهند، فلا قانون تقنية المعلومات (الصادر سنة 2000) ولا أي من القواعد واللوائح الصادرة بموجبه تُشير إلى حيادية الشبكة.
هذا أيضًا ما دفع المدافعون مجموعة من المتطوعين المستقلين سياسيًا الذين تتنوع مجالاتهم بين التقنية والقانون والصحافة والأعمال، لإطلاق حملة دفاعًا عن حيادية الإنترنت تحت شعار «انقذ الإنترنت. صوّت لحيادية الشبكة»، عبروا من خلالها عن دعمهم لحماية مبدأ حيادية واقتناعهم بأن شبكة الإنترنت نجحت في تشجيع الابتكار والوصول للمعرفة وحرية التعبير بسبب هذا المبدأ. كما رفضت الحملة ما جاء في الورقة التي قدمتها هيئة تنظيم الاتصالات في الهند، ودعت المستخدمين إلى الانضمام إليها للنضال من أجل حيادية الشبكة وتذكير الهيئة بأن دورها هو حماية حقوق المستهلكين وليس هوامش الربح لشركات الاتصالات.
على الجانب الآخر، فقد دشّنت مجموعات من المستخدمين حملة «نجمة واحدة» اعتراضًا على اتفاق يخرق حيادية الإنترنت بين شركة Flipkart للتجارة الإلكترونية وشركة Airtel للاتصالات. تدعو الحملة المستخدمين إلى التصويت بنجمة واحدة لتطبيق شركة Flipkart على متجر Google Play، وإلى إلغاء تثبيت التطبيق من هواتفهم. ونجحت الحملة في إجبار Flipkart على تنفيذ مطالب مطالب المستخدمين وانسحبت من هذا الاتفاق.
يُذكر أيضًا أن منظمة البرمجيات الحرة بالهند نظمت احتجاجًا على ممارسات انتهاك مبدأ حيادية الشبكة، شارك فيه متخصصون في تكنولوجيا المعلومات. وترى المؤسسة أن أهمية حيادية الشبكة تنبع من أن انعدامها سيأثر فعليًا على الاقتصاد ودعت الحكومة الهندية للسير على نفس النموذج الأمريكي في الحفاظ على حيادية الشبكة.
لا تزال الأمور في تطور سريع، إذ لم تتخذ حكومة الهند قرارًا نهائيًا تجاه حيادية الشبكة بعد، إلا أن وزير الاتصالات أعلن أن الحكومة تدعم حيادية الشبكة، وأنها ستتخذ قرارًا نهائيًا بعد المداولات حول التقارير ذات الصلة الصادرة عن لجنة داخلية في وزارة الاتصالات والورقة التي صدرت جهاز تنظيم الاتصالات بالهند.