هذا المقال نُشر أولا في موقع المصري اليوم بتاريخ 05-07-2017
في وقت وجيز من بدء الحكومة في حجب المواقع الإخبارية، ارتفع عدد المواقع المحجوبة في مصر إلى 118. كانت البداية في 24 مايو 2017، حيث نشرت وكالة الأنباء الرسمية (وكالة أنباء الشرق الأوسط) خبرا مقتضبا حول حجب 21 موقعا، كموقع مدى مصر وكل المواقع التابعة لقناة الجزيرة وغيرها. وتداول الإعلام أن الحكومة قد حجبتت المواقع الداعمة للإرهاب والتابعة لقطر، في سياق الحصار المفروض عليها من أربع دول عربية: مصر والسعودية والإمارات والبحرين.ميين» تؤيد قرار حجب المواقع: تهدد الأمن القومي
لم يكن حجب مواقع الإنترنت فعلا عدائيا جديدا من قبل السلطة الحالية، فموقف السلطة تجاه الإنترنت عدائي منذ البداية، ولم تتوقف محاولاتها المستمرة للسيطرة عليه. في منتصف سنة 2014، سربت الصحافة كراسة شروط لممارسة محدودة، أعلنت عنها وزارة الداخلية المصرية والتي تستهدف شراء تطبيقات تمكنها من مراقبة الشبكات الاجتماعية على الإنترنت، والتجسس على أنشطة المستخدمين. وفي سبتمبر 2014، كشف تقرير صادر من سيتزن لاب، عن استخدام مصر نظام بلو كوت، وهو نظام يمكّن من مراقبة تدفق البيانات على الإنترنت عبر تقنية Deep Packet Inspection، وإخضاع حزم بروتوكول الإنترنت للمعالجة والمراقبة. وفي يوليو 2015، كشفت الوثائق المسربة من شركة هاكينج تيم، قيام أجهزة الأمن المصرية بالتواصل مع الشركة للحصول على نظام RCS، وهو برنامج من النوع المستخدم لاستهداف أشخاص معينين، لمراقبة نشاطهم الرقمي. وفي نوفمبر 2016 حتى الربع الأول من عام 2017، تعرّض مجموعة كبيرة من النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان في مصر لهجمة استهدفت الحسابات المؤسسية والشخصية. ما يحدث أن السلطة الحالية تستكمل ما ورثته عن الأنظمة السابقة بمزيد من التصميم على السيطرة والتطوير. ففي عام 2011، اقتحمت مجموعات من الثوار مقار جهاز أمن الدولة، وعُثر بواحد من مقراته على وثائق تعود لعامي 2008 و2009 تثبت أن الحكومة المصرية قد حصلت على نظام FinFisher للتجسس على النشطاء المصريين.
يأتي حجب المواقع الإخبارية والإعلامية في ظل وضع مترد على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي في مصر، حيث أحكمت الدولة السيطرة على الإعلام التقليدي، وانحصر ظهور معارضين على شاشات القنوات الفضائية، ومارست الصحافة رقابة ذاتية خوفا من بطش السلطة، ولم يعد هناك حراك في الشارع المصري وداخل الجامعات المصرية، بعد التعامل العنيف مع المتظاهرين خلال السنوات الماضية، خاصة بعد إصدار قانون تنظيم التظاهر. فكان الإنترنت هو المساحة الأخيرة والمنصة الوحيدة المتاحة للمواطنين للتعبير عن آرائهم.
بعد الثورة المصرية في 2011 تعاملت الدولة مع الإنترنت والإعلام ومنظمات المجتمع المدني، باعتبارها كانت أسبابا أساسية لإسقاط النظام الأسبق، وعليه أصبح على الأجهزة الأمنية أن تسيطر عليها والقضاء على ما يمكن القضاء عليه. فعلى الرغم من إمكانية فهم تحرك الملايين في الثورة المصرية في سياق استبداد وتردي الأوضاع في عهد نظام مبارك وممارسات جهاز الشرطة المصري، وهو التفسير الأكثر منطقية. فالإعلام وقت مبارك لم يتمتع بمطلق حريته ولم يكن في صف الثورة بل كان في أغلبه ضد تحركات الملايين في 25 يناير وما تلاها، ومنظمات المجتمع المدني لم تكن مؤثرة في تحركات الشارع واقتصر دورها على تقديم الدعم القانوني وتوثيق الانتهاكات، وهو عمل اعتيادي كانت المنظمات تقوم به منذ فترة طويلة سابقة على الثورة، إلا أن السلطة الحالية، منذ أن جاءت، وهي تسعى لتدجين الإعلام والسيطرة التامة عليه، وهو ما نجح فيه بالفعل، لتتحول الكثير من القنوات الفضائية والصحف إلى أدوات استقطاب وتضليل، في نفس الوقت الذي تُرهب فيه السلطة منظمات المجتمع المدني، وهي الآن في مرحلتها الأخيرة للقضاء تماما على وجودها المستقل، إما عبر قانون تنظيم عمل الجمعيات الأهلية الذي أُقرّ مؤخرا يوم 24 مايو 2017، وهو نفس يوم بداية حجب المواقع، أو من خلال تقديم العديد من المدافعين عن حقوق الإنسان للتحقيق والمحاكمات والتحفظ على أموال بعضهم. وعلى أي حال، لا يمكن أن ننظر إلى عداء السلطة للإنترنت ومراقبته و ممارسة حجب مواقع الويب في مصر خلال الفترة السابقة في سياق منفصل عن رؤية الدولة تجاه ما تراه- جهلا- أدوات تسببت في إسقاط نظام مبارك.
وربما ترجع قناعة الدولة وأجهزتها الأمنية بخطورة الإنترنت؛ لتاريخ من استخدامه من قبل حركات التغيير السياسي والاجتماعي في السنوات التي سبقت ثورة يناير. فقد استخدم النشطاء المدونات، ثم الشبكات الاجتماعية، في تناول العديد من القضايا الحقوقية، كقضايا التعذيب في أقسام الشرطة والتحرش الجنسي وتغطية المظاهرات التي دعت لها حركات التغيير، كما لعب الإنترنت دورا في الحشد للعصيان المدني في 6 أبريل 2008. لاحقا، في نهاية 2010، أطلقت صفحة (كلنا خالد سعيد) دعوة للتظاهر في 25 يناير2011 بميدان التحرير، وهي الدعوة التي تحولت لثورة شارك فيها ملايين المصريين وأسقطوا واحدا من أقوى الأنظمة المستبدة في المنطقة العربية. وفي أحداث الثورة ، لم يقتصر استخدام الشبكات الاجتماعية على الدعوة للمظاهرات وحسب، بل استُخدم أيضا في التنظيم وتوجيه المتظاهرين، بداية من نشر نشطاء لخرائط توضّح خط سير المظاهرات في الأماكن المختلفة، حتى توظيف تويتر لتحذير المتظاهرين من أماكن التواجد الأمني المكثف في الأماكن المختلفة، مما جعل النظام يحجب موقعي فيسبوك وتويتر، ثم يقطع الاتصالات تماما عن كامل الأراضي المصرية، باستثناء خدمة الهاتف الأرضي، وخدمة الإنترنت من شركة نور، التي تمتلك حصة ضئيلة من سوق خدمات الإنترنت في مصر.
لم يغب مجلس النواب المصري عن مشهد عداء الدولة للإنترنت وللشبكات الاجتماعية ولتداول المعلومات والأخبار عبرها، فقد كان حجب المواقع حاضرا في مشروع قانون الجريمة الإلكترونية المقترح من أحد أعضاء مجلس النواب المصري في مايو2016، حيث جاءت مسودة القانون في 30 مادة لا تهدف لمكافحة الجريمة الإلكترونية بقدر ما تسعى للسيطرة على الإنترنت ومستخدمي الشبكات الاجتماعية وفرض رقابة ذاتية على المستخدمين عن طريق الترويع بعقوبات قاسية على ممارسات اعتيادية يومية يقوم بها معظم مستخدمي الشبكات الاجتماعية، وهو القانون الذي اقترحه النائب تامر الشهاوي، الضابط السابق. كما اقترح أحد أعضاء مجلس النواب إصدار قانون يُلزم المستخدمين المصريين بالحصول على ترخيص لاستعمال الشبكات الاجتماعية. أيضا ظهرت مطالبات برلمانية لحجب المواقع، وفرض رقابة على الإنترنت، حيث أعلن أعضاء من مجلس النواب المصري عن سعيهم لإصدار قانون لحجب المواقع الإباحية، والمواقع التابعة لتنظيمات مسلحة. ومن أغرب المقترحات الصادرة عن أعضاء بمجلس النواب في أبريل 2017 دعوة نواب من مجلس النواب المصري لسن قانون يُلزم مستخدمي الشبكات الاجتماعية في مصر بدفع مبلغ مالي شهريا مقابل استخدامهم فيسبوك.
الحل في اللامركزية
حذّر الرئيس عبدالفتاح السيسي في أحد لقاءاته المُذاعة على التليفزيون مما يتم تداوله على شبكات التواصل الاجتماعي قائلا: “أنا بتكلم دلوقتي وإنتو شايفني، لو أنا بتكلم من ورا وسائل الاتصال المختلفة إنتو مش شايفني ولا تعرفوا أنا تبع إيه، ولا بهدف من ورا ده إيه” ويستكمل في نفس اللقاء :”أنا ممكن بكتيبتين أدخل على النت وأعملها دائرة مقفولة والإعلاميين ياخدوا أخبار وشغل منها”. هكذا يرى الرئيس السيسي الإنترنت وكيف يمكن السيطرة عليه.
فعليا لا يبدو أنه يمكن السيطرة على الإنترنت، لا بحجب ولا بكتائب ولا بغيرهما. بشكل عام، لم يكن الحجب مانعا للمستخدمين من الوصول لما يريدونه من محتوى، فنجد أنه على الرغم من حجب المواقع الإباحية في دول مثل المملكة العربية السعودية وباكستان وغيرها، إلا أن هذه الدول تعتبر من أكثر الدول المستهلكة للمواد الإباحية. ما يحدث أنه عند حجب المواقع يسعى المستخدمون تلقائيا لإيجاد طرق لتجاوزه، وعلى مدى غير طويل يكتسب المستخدمون ثقافة تجاوز الحجب، وتصبح من بين مهاراتهم التقنية الأساسية.
كانت المواقع المصرية المحجوبة قد قامت ببعض الإجراءات لمواجهة الحجب. بعض المواقع أصبحت تنشر كامل محتواها على صفحاتها بفيس بوك، والبعض الآخر اتجه لمنصات نشر بديلة لم يتم حجبها كخدمات التدوين، وجزء من المواقع قام بإنشاء نطاقات جديدة لمواقعهم، بالإضافة لاستخدام خدمات شبكات توزيع المحتوى (CDN) حيث تستضيف المواقع المحجوبة محتواها على خواديم تابعة لشركات كجوجل على سبيل المثال، بحيث يصبح حجب هذه المواقع يعني أيضا حجب خدمات جوجل.
أصبح استهلاك المواد الرقمية بشكل عام واحدا من الاحتياجات الأساسية، يسعى الجميع لإيجاد طرق للحصول عليها. فما تقوم به دول مثل مصر بحجب المواقع والخدمات يقابله تحركات عالمية واسعة لإيجاد طرق بديلة لتداول البيانات على الإنترنت دون أن يكون للحكومات والشركات سلطة عليها. تبدو الأفكار حول الشبكات غير المركزي، هي الأكثر رجاحة في مواجهة محاولات السيطرة على الإنترنت. تلعب الحكومات والشركات دورا أساسيا في تشغيل الإنترنت التي نعرفها اليوم، سواء ما يتعلق بتوفير خدمة الإنترنت نفسها وخواديم التوجيه و الخواديم المُعدّة لاستضافة المواقع والتطبيقات والخدمات، وبالتالي فإنه يمكن التحكم بتطبيقاته ومحتواه من قبل الشركات والحكومات، ولا يمكن الحفاظ على خصوصية المستخدمون، فبياناتهم تخضع لسلطة مقدمي الخدمات و وسطاء الإنترنت. أما مصطلح الشبكات اللامركزية، فيستخدم للإشارة إلى سلسلة من التقنيات أن تحل محل العديد من بروتوكولات الاتصال والشبكات والخدمات الحالية، بحيث تكون استضافة المحتوى والتطبيقات والخدمات مُشاركة من قبل المستخدمين أنفسهم وموزعة على حواسيبهم فلا يمكن السيطرة عليها أو فرض رقابة عليها من قبل حكومات أو وسطاء. مشاركة الملفات عبر التورنت واحدة من تطبيقات الشبكات اللامركزية، وتستخدم هذه النوعية من البرامج بروتوكول “بت تورنت” لمشاركة الملفات عبر الإنترنت، بحيث لا تكون الملفات المُشاركة مُخزّنة بخادوم مركزي، بل تُقسم الملفات إلى عدد من الأجزاء الصغيرة، ثم تُوزّع هذه الأجزاء بشكل عشوائي بين المستخدمين بحيث تعمل كل حواسيب المستخدمين المُستضيفة لملف معين كخادوم، في حين يعمل حاسوب المستخدم الذي يُريد تحميل الملف كعميل، وبعد اكتمال تحميل الملف على حاسوب مستخِدم ما يتحول بدوره ليعمل كخادوم لمستخدمين آخرين.
تجتهد العديد من المجموعات التي آمنت بحرية الإنترنت وحرية المعلومات في إيجاد أدوات وشبكات غير مركزية وغير قابلة لسيطرة الحكومات والشركات العملاقة العاملة في مجال التكنولوجيا عليها. أحد أهم تلك التجارب هي مشروع “صندوق الحرية” التي تسعى لبناء شبكات غير مركزية يتحكم فيها المستخدمون في بياناتهم بأنفسهم ولا يمكن للحكومات أن تسيطر عليها، وهو عبارة عن خادوم صغير، يحتاج لإعدادات بسيطة وسهلة لتشغيله، ورخيص الثمن، ويمكن لأي شخص الحصول عليه، وكل اتصالاته مُشفرة، ويوفّر كل ما يريده المستخدمون من إمكانيات. كل ما سيكون على المستخدم فعله هو شراء خادوم “صندوق الحرية”، وتشغيله، وتوصيله بالإنترنت. بعدها يستطيع المستخدم التعامل معه في كل ما يريده مثله مثل أي خادوم آخر، كالتواصل الاجتماعي والبريد الإلكتروني والدردشة الصوتية والمرئية وغير ذلك. تخيل شبكة اجتماعية تعمل بشكل غير مركزي عبر مجموعة من خواديم (صندوق الحرية) باتصالات مُعمّاة ، لا تُديره شركة مركزيا، ولا يمكن حجبه.
أما مشروع تور TOR فيوفّر متصفح آمن للمستخدمين، ويعمل على مختلف المنصات: ويندوز ، وماك ، ولينكس ، وأندرويد، وأي أو إس. يعمل متصفح تور عبر شبكة غير مركزية مؤلفة من آلاف الخواديم التي يديرها متطوعون. و يوفّر تصفح مواقع الإنترنت المختلفة في حالة تخفي، حيث يمر اتصال المستخدم عبر مجموعة من العقد من خلال مسارات معماة، موزّعة في أماكن جغرافية مختلفة، فلا يمكن الكشف عن هوية المتصفح ولا مكانه ولا يمكن حجب محتوى عنه. ولا يمكن حجب خدمة تور نفسها، فحتى مع حجب موقع “مشروع تور”، كما حدث في مصر، يمكن للمستخدمين الحصول على المتصفح عبر البريد الإلكتروني أو من خلال التورنت أو من الكثير من المواقع غير المحجوبة التي تتيح تحميله.
زيرو نت Zeronet هي تجربة أخرى حديثة نسبيا بدأت في عام 2015، تعمل كشبكة غير مركزية تُمكّن مستخدميها من استضافة المواقع الإلكترونية بشكل مشترك من خلال شبكة توزيع غير مركزية مُؤلفة من المستخدمين، بحيث يتشارك المستخدمون استضافة البيانات على حواسيبهم، وهي نفس الطريقة التي تعمل بها خدمات التورنت، فشبكة زيرونت تعمل من خلال بروتوكول بيتورنت. كما تعتمد الشبكة أيضا على تقنية التعمية المستخدمة في عملة بيتكوين الرقمية. الخدمات التي تتاح على زيرونت سواء كانت مواقع إلكترونية أو تطبيقات دردشة وشبكات اجتماعية لا يمكن التحكم فيها من قبل الحكومات أو الشركات التي تزود المستخدمين بخدمة الإنترنت، ولا يمكن حجب أو إزالة محتواها.
تعتبر دولة مثل كوبا من أقل الدول اتصالا بالإنترنت، بل إن لديها إنترنت محليا تٌسيطر عليه الدولة بشكل تام، وهو ما لم يكن يُرضي المستخدمين في كوبا، فنشأ حل بديل للحصول على المواد الرقمية، عبر استخدام ما أطلق عليه الكوبيون الباكت (Paquete) وهو حل مبتكر عبارة عن قرص تخزين يحتوي على مواد رقمية مُنوّعة كالمجلات والصحف والأفلام والمسلسلات والبرامج التلفزيونية ومواقع بأكملها يمكن تصفحها دون الحاجة للإنترنت، مثل نسخة اللغة الاسبانية من ويكيبيديا. هذا القرص يُحدّث محتواه إسبوعيا (كل يوم ثلاثاء). مخترعو الباكت والقائمون على تحديث محتواه غير معروفين، إلا أن المواد الرقمية التي يُشاركوها عليه تصل أسبوعيا لملايين المستخدمين.
هناك العديد من التجارب والمشاريع التي تسعى لإتاحة شبكات غير مركزية، لا يمكن السيطرة عليها. ففي الوقت الذي تعمل فيه دول العالم على السيطرة على تداول المعلومات على الإنترنت بدعوى محاربة الإرهاب والحفاظ على الأمن القومي، يعمل آلاف المتطوعين من مختلف أنحاء العالم على إبقاء الإنترنت مفتوحا وحرا، دون تحكم من حكومات أو شركات عملاقة متعددة الجنسيات، فما يوفره الإنترنت وتطبيقات الويب واجتهادات العديدين ممن آمنوا بحرية الإنترنت وحرية المعلومات يقف بصلابة ضد السيطرة على الشبكة وتدفق المعلومات من خلالها.