الاتصالات التقدمية: أكثر من مجرد تكنولوجيا

تحتل الإنترنت والاتصالات في مجتمعنا المعاصر دورًا بالغ الأهمية. إنها بمثابة الأساس الذي تُبنى عليه قيمنا وآرائنا، وبشكل ملحوظ، قدرتنا على التغيير الجذري. وعلى الرغم من أن الإنترنت والاتصالات تعتبرا بمثابة حجرا زاوية للحوار البناء والتفاهم المتبادل والتماسك الاجتماعي؛ إلاّ أنه من الأهمية بمكان أن نعترف بأن القنوات التي يتم من خلالها نشر المعلومات والتواصل في تكوينها تحتوي على تفاقم عدم المساواة وتعزيز هياكل السلطة الراسخة وإدامة التفاوتات. 

هذه التدوينة تستكشف الاتصالات وتحديد تأثيرها المحوري في تشكيل التوجهات العامة وتعزيز التضامن وإحداث تغيير مجتمعي عميق. ومن خلال المنظور التقدمي، نُشير إلى الإمكانات التحويلية الكامنة في صناعة الاتصالات والتقنية والإنترنت، في إطار فهم كيف تعمل هذه الأفكار على تمكين الجماهير في سعيها إلى عالم أكثر عدلاً وإنصافًا.

ما هي الاتصالات التقدمية؟

في مستواها الأساسي، تعتبر الاتصالات التقدمية وسيلة للخطاب والتفاعل، تهدف إلى تعزيز المُثُل التقدمية. ويشمل ذلك أساليب واستراتيجيات مختلفة تؤكد على العدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية والمساواة والكرامة الإنسانية وغيرها من القيم التقدمية كقيم أساسية. وفي هذا الإطار، يكون التواصل بمثابة وسيلة وغاية في نفس الوقت، حيث يسهل تبادل الأفكار والمعلومات بينما يجسد نفس المبادئ التي يسعى إلى تعزيزها.

,يمكن إرجاع جذور تطور مفهوم الاتصالات التقدمية إلى الحركات الاجتماعية والسياسية التي سعت إلى تحدي انعدام العدالة والدعوة إلى التغيير الإيجابي. وقد استفادت حركات مثل حركة الحقوق المدنية والنشاط البيئي والحركات العمالية من التواصل لتضخيم رسائلها وتعزيز قضاياها. يمكن رؤية تأثير الاتصالات التقدمية في تحول الخطاب العام وتغيير السياسات والوعي المتزايد بالقضايا المجتمعية الملحة. لذا فإنه يُمكن اعتبارها كقوة تمكّن الأفراد والمجتمعات من التشكيك في الروايات السائدة وإحداث تغيير بناء.

يُعدّ فهم المبادئ التي تقوم عليها الاتصالات التقدمية أمرًا ضروريًا، لأنها لا تُوجّه أساليبنا فحسب، بل أيضًا أهدافنا. هذه المبادئ تتجاوز مجرد التكنولوجيا؛ فهي تشمل جوهر التواصل كوسيلة لتمكين الأفراد وتضخيم الأصوات وتحدي هياكل السلطة القائمة، علاوة على أنها تلعب دورًا فعالًا في بناء القوة الجماعية وتمكين المجتمعات من الدفاع عن حقوقهم وقيادة التغيير المجتمعي. ويُمكن الإشارة إلى أهم المبادئ فيما يلي:

أكثر من مجرد تكنولوجيا

الاتصالات التقدمية تعتبر التكنولوجيا وسيلة قوية للتواصل ونقل المعلومات، ولكنها تفهم أيضًا أن القوة الحقيقية للتواصل تكمن في القيم والمبادئ التي تنطلق منها. هذا المبدأ ينطوي على فهم أن الأدوات التكنولوجية تمثل مجرد جزء من الصورة الكاملة، وأن القيم هي التي تشكل الأساس الحقيقي للتواصل الفاعل والمؤثر. تتيح هذه القيم بناء جسور من التفاهم والتضامن بين مختلف الثقافات والمجتمعات. بالإضافة إلى ذلك، تعمل هذه القيم كموجه لاختيار الأدوات التكنولوجية واستخدامها بطرق تدعم تلك القيم وتعززها.

بالنظر إلى هذا المبدأ، يتضح أن النجاح الحقيقي للاتصالات التقدمية يأتي من خلال توظيف التكنولوجيا بطرق تلبي القيم والمبادئ التقدمية. يتعين على الخطط والاستراتيجيات التكنولوجية تعزيز هذه القيم ودعمها بدلاً من التنازل عنها. ينبغي للاتصالات التقدمية أن تكون مرنة ومتلائمة مع التطورات المجتمعية والثقافية، مما يعكس قيمها ويحقق الأهداف الإنسانية والاجتماعية المستقبلية.

العدالة الاجتماعية

يعدّ تركيز الاتصالات التقدمية على العدالة الاجتماعية أحد المبادئ الأساسية. يهدف هذا المبدأ إلى تحقيق المساواة والعدالة في المجتمع من خلال إشراك جميع أفراده وضمان فرص متساوية للجميع. تعزز الاتصالات التقدمية الوعي بالظلم المنهجي وتسعى إلى محاربته، سواء كان هذا الظلم عنصريًا أو يتعلق بالدخل أو الوصول إلى الفرص والموارد.

و تُظهر الاتصالات التقدمية التزامًا بالتواصل الأخلاقي والمسؤول، وهو يعكس قيم العدالة والمساواة من خلال التفاعل الإيجابي والبناء. تسعى إلى خلق مجتمع يمكّن جميع أفراده بمناخ يُسهّل التفاهم ويقوي العلاقات الاجتماعية. يهدف هذا المبدأ إلى إنشاء بيئة ملائمة تسمح للجميع بالمشاركة الفعّالة وتحقيق إمكاناتهم بمساواة.

المساواة 

المساواة في الاتصالات التقدمية تعني أيضًا توفير الفرص المتساوية للجميع في الوصول إلى المعرفة والموارد والتعليم والعمل والمشاركة في اتخاذ القرارات. وهي تعزز أيضاً مشاركة الجميع في صنع القرارات وتحقيق التوازن والعدالة الاجتماعية.

القوة الاجتماعية

الاتصالات التقدمية تتجاوز دورها كوسيلة لنقل المعلومات، إذ تمثل أداة أساسية لبناء القوة والتأثير في المجتمعات. تمكّن هذه الاتصالات الأفراد والمجتمعات من الدفاع عن حقوقهم ومصالحهم، ومن تحدي الهياكل السلطوية القائمة وتعزيز التغيير الإيجابي.

هذا المبدأ يبرز دور الاتصالات في تمكين الأفراد والجماعات، حيث تسهم في توجيه الانتباه والتفكير نحو القضايا الاجتماعية والسياسية المهمة. تعتمد القوة المجتمعية على القدرة على التنظيم والتأثير والتغيير، والاتصالات التقدمية تلعب دوراً فعالاً في هذا السياق.

حقوق الإنسان

الاتصالات التقدمية تعنى بدعم وتعزيز حقوق الإنسان الأساسية في مختلف السياقات. تشمل هذه الحقوق حقوق حرية التعبير والخصوصية، وحقوق الوصول إلى المعلومات بحرية والحق في التنظيم وغيرهم. يُعتبر الحفاظ على حقوق الإنسان في العالم الرقمي أمرًا ذو أهمية بالغة. حرية التعبير تشكل أساسًا للتفاعل الحر وتبادل الأفكار والآراء دون قيود، وتسهم في خلق بيئة حوارية متفتحة. بالإضافة إلى ذلك، حقوق الخصوصية تعد أساسية لحماية البيانات الشخصية والمعلومات الحساسة من الاستغلال أو الاختراق. أما حق الوصول إلى المعلومات، فهو يُمثّل حقًا أساسيًا في تمكين الأفراد والتحول نحو مجتمع أكثر إشراقًا وتطورًا.

في سعيها لضمان حماية هذه الحقوق، تستخدم الاتصالات التقدمية التكنولوجيا والسياسات لتعزيز إطار عمل يحفظ تلك الحقوق. فهي تُشجّع على تطوير الأدوات التكنولوجية التي تحافظ على الخصوصية وتُسهّل الوصول الحر للمعلومات، وتدعم السياسات التي تعمل على ضمان حقوق الإنسان في البيئة الرقمية.

الانفتاح

الانفتاح يُعَدّ قيمة أساسية في إطار الاتصالات التقدمية، حيث يحمل دورًا هامًا في بناء بيئة تواصلية تشجع على الشفافية والحوار الحر والتبادل المستمر للأفكار والآراء. تلعب هذه القيمة دورًا أساسيًا في تعزيز الثقافة العامة للمساءلة والشفافية. يتضح أن الانفتاح يُعَدّ مفتاحًا للفهم المتبادل والتقارب بين الثقافات والمجتمعات المتنوعة. عندما تكون البيئة الاتصالية مفتوحة وشفافة، يُمكن للأفراد التفاعل وتبادل الأفكار دون حواجز، مما يُشجّع على حوار مستنير وبناء فهم أعمق.

الانفتاح يساهم في تحفيز الحوار والتفاعل البناء بين الأفراد والجماعات. ويعزز هذا الحوار المفتوح الفهم المتبادل والتقارب بين الأفكار والمواقف المختلفة، مما يمهد الطريق نحو الخطاب العام المستنير الذي يؤثر إيجابيًا على التغيير والتطور الاجتماعي.

لدعم هذه القيمة، يتعين تعزيز البنية التحتية التقنية والسياسية التي تشجع على الشفافية والتواصل المفتوح. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي تعزيز ثقافة الاحترام والاستماع الفعّال للآراء المختلفة من خلال التفاعل الشخصي والرقمي.

الشمول

قيمة الشمول في السياق الاتصالات التقدمية تعني تعزيز التنوع والاحترام لجميع الأصوات. تحقيق الشمول يتطلب ممارسات تواصلية تحترم وتقدر التنوع الثقافي والاجتماعي والجندري. يشمل ذلك التحفيز على الانفتاح على ثقافات مختلفة وتشجيع الحوار البناء والتبادل الثقافي. الشمول لا يقتصر على الاحترام للتنوع وحده، بل يهدف أيضًا إلى مكافحة التمييز والتهميش. ويسعى إلى توسيع آفاق التفكير الممثلة تمثيلاً شاملاً لكافة الآراء والخبرات، بما في ذلك تلك التي قد تكون تحتمل التهميش في المجتمعات الأكثر تقدما.

التعاون 

التعاون في السياق الحديث للاتصالات التقدمية يعني تكامل وتعاون الأطراف والجهود نحو هدف مشترك. يمثل فكر التعاون جوهر العمل الجماعي والشراكات الفعّالة، حيث تتفق المجتمعات على تحقيق غايات مشتركة. يتطلب التعاون تبادل المعرفة والمهارات والموارد بين الفرق المختلفة، ويوفر فرصة لتعزيز الإبداع والابتكار من خلال تأمين التواصل والتفاعل المستمر بين الأطراف. ويُظهر التعاون تأثيراً مضاعفًا في تحقيق الأهداف الاجتماعية والتقدمية. يعزز التنسيق والعمل المشترك بين الفرق المختلفة قدرتها على تنفيذ مشاريع أو مبادرات أو حتى حل المشكلات الاجتماعية الضخمة.

التجريب

في سياق الاتصالات التقدمية، يعني المبدأ الخاص بالتجريب استعداداً دائماً للتطوير والابتكار. يقوم هذا المبدأ على استكشاف واستخدام الأساليب والتقنيات الجديدة التي تمكن من تحسين جودة التواصل وتكييفها مع الاحتياجات المتطورة للمجتمع. يشجع المفهوم على تجربة الأفكار الجديدة والمختلفة والاستعداد لقبول التحديات والفشل أحيانًا كجزء لا يتجزأ من عملية التطور والنمو. يُعزز التجريب الابتكار والبحث عن حلول جديدة للتحديات الراهنة، مما يسهم في تحقيق التغيير الإيجابي في المجتمع.

كما أنه بالاعتماد على التجريب، يمكن تطوير استراتيجيات الاتصال لتلبية احتياجات وطموحات الجمهور بشكل أفضل. ويُشجع على استخدام التحليل والتقييم المستمر لنتائج التجارب وتعديل الاستراتيجيات والأساليب بناءً على النتائج.

الاستدامة البيئية

يُعَد التركيز على البيئة والاستدامة جزءا أساسيا من التوجهات الحديثة في التطور التكنولوجي والتواصل العالمي. تُعَد الاتصالات التقدمية حلقة وصل بين الفرد والمجتمع لفهم ونقل أهمية الحفاظ على البيئة وتشجيع الممارسات الصديقة للبيئة.

تهدف الاتصالات التقدمية إلى نشر الوعي بالتحديات البيئية الحالية والمستقبلية مثل تغير المناخ، الحفاظ على الموارد الطبيعية وتقليل الآثار البيئية السلبية. وتعمل على دعم الممارسات الصديقة للبيئة، سواء كان ذلك من خلال تشجيع استخدام الطاقة المتجددة وتقليل النفايات أو تعزيز استخدام التكنولوجيا لتحقيق الاستدامة.

لقد أرست مبادئ الاتصالات التقدمية الأساس لفهم النهج التحويلي لنشر المعلومات وتعزيز التغيير الاجتماعي. ومع ذلك، فإن هذه المبادئ ليست مفاهيم مجردة ولكنها منسوجة مشهد الاتصالات نفسه، من “الإعلام من أجل الناس” إلى  تضخيم الأصوات” و”سد الفجوات الاجتماعية والاقتصادية” و”تحدي الظلم”، و”تعزيز الشمول والتنوع” و”التعاونيات” و”التضامن والعمل الجماعي”. يمثل كل جانب من هذه الجوانب وجهًا فريدًا لكيفية تطبيق مبادئ الاتصال التقدمي في العالم الحقيقي.  وفي قلب ذلك  يوجد التضامن والعمل الجماعي، حيث تمكين المجتمعات من العمل معًا والدفاع عن حقوقهم وإحداث تغيير إيجابي.