الاستبداد المُسلّح بالتقنية

يُثير التحول التقني المتسارع قلقًا في البلدان غير الديمقراطية؛ فنمو تدخُّل التقنية في الحياة اليومية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قد أفرز نمطًا يُمكن أن نطلق عليه الاستبداد المُسلّح بالتقنية. فقد تملَّك الاستبداد أدوات يُمكنها فرض سيطرة النظام بشكلًا مركزيًا؛ ليُحدث أثرًا يبدأ من قمع حرية التعبير والحق في الخصوصية وحرية تداول المعلومات ويصل إلى إجهاض أي فرص للحق في التنظيم والتجمع السلمي وتكوين حركات سياسة واجتماعية قادرة على تمثيل أعضائها؛ فتحولت التقنية من أدوات لخدمة صالح البشرية إلى أسلحة للاستبداد والحفاظ على السلطة ومصالحها الاقتصادية.

تمتلك الأنظمة الاستبدادية اليوم تقنيات عدّة لمراقبة الإنترنت والاتصالات، وقد فتحت هذه التقنيات الباب أمامها لتنفيذ مراقبة جماعية وشاملة على الأفراد والمجتمعات. بدءًا من التنصت على المكالمات الهاتفية والرسائل النصية وتطبيقات التراسل الفوري والدردشة، وصولًا إلى استهداف نشطاء وقادة سياسيين معينين، حتى فرض مراقبة شاملة على الإنترنت بأسرها من خلال استخدام تقنيات الفحص العميق للحزم. هذه الأدوات القوية والإمكانات غير المحدودة التي تمتلكها الأنظمة المستبدة قد أدت إلى بناء جدران رقمية تفصل بين الأفراد والمجتمعات، وخلقت شعورًا عامًا لدى الأفراد بأن حياتهم تتعرض لفحص مستمر. هذا يقلل من – وربما يُعدِم – القدرة على تكوين شبكات اجتماعية وسياسية قوية قادرة على توحيد الجهود والدفاع عن مصالح وحقوق فئاتها.

بالإضافة إلى ذلك، فإن شيوع استخدام هذه التقنيات من قبل الأنظمة المستبدة، ووجود نتائج واقعية لاستخدامها – مثل القبض على النشطاء السياسيين وملاحقتهم أمنيًا وقضائيًا- يُثير شعورًا بالعزلة والاضطهاد. يؤثر هذا الشعور بشكل كبير على استعداد الأفراد للمشاركة في النشاطات السياسية والاجتماعية. يشعرون بأن المخاطر المحتملة للمشاركة تتفوق بوضوح على الفوائد المحتملة؛ ما ينتج ضعفًا في التنظيمات المدنية والمجتمعية، وتقليل الفعالية في النضال من أجل الحقوق السياسية والعدالة الاجتماعية.

على الجانب الآخر، فعندما نتحدث عن صعوبة – وفي أغلب الأحيان انعدام – تبادل المعلومات بين أصحاب المصالح المشتركة، والقيود والتحديات التي تفرضها الرقابة على الإنترنت، فإن تلك القيود تتجلى نتائجها في كيفية تشكيل الرأي العام واستغلال وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي من قبل هذه الأنظمة لنشر رسائل تخدم مصالحها السياسية والاقتصادية. ومن هنا، يظهر تأثير سلبي على عدة جوانب في المجتمع.أولًا، يُعِيق انعدام التواصل الحر وتبادل الأفكار والمعلومات بين الحركات الاجتماعية والسياسية والنقابات والجمعيات المدنية على قدرتهم على تشكيل أجندات سياسية واجتماعية واقتصادية تعكس مصالح أعضائهم بشكل واقعي، ومبنية على تصورات وافتراضات حقيقية. وثانيًا، يُصعِّب -وغالبًا سيُعدِم- فرص هذه المجموعات للعمل معًا لتشكيل تحالفات وحركات تهدف إلى تحقيق تغيير إيجابي في المجتمع. إن هذا التقييد يؤدي إلى تقويض العدالة الاجتماعية وتأخير تحقيق التقدم في مجموعة متنوعة من المجالات، بداية من حرية التعبير والحق في الخصوصية وحرية تداول المعلومات وصولاً إلى الدفاع عن العدالة الاجتماعية والحق في التنظيم والتجمع السلمي.

وتأتي واحدة من الآثار الأكثر إيلامًا للقمع الرقمي وهي خلق بيئة من الرقابة الذاتية بين الأفراد والمجتمعات. في هذا السياق، يخشى الأفراد من التعبير عن آرائهم أو المشاركة في الأنشطة الاجتماعية؛ نتيجةً للخوف المستمر والمنتشر من العواقب السلبية التي قد تنتج عن ذلك، ويجد الأفراد أنفسهم يمارسون الرقابة الذاتية خوفًا من التداعيات السلبية التي يمكن أن تلحق بهم. فتؤدّي البيئة المفروضة من الرقابة الذاتية إلى تقليل إمكانية المشاركة الفعّالة للأفراد في الحياة العامة. 

عندما يُجبَر الأفراد على ممارسة الرقابة الذاتية والامتناع عن التعبير عن آرائهم نتيجة للقمع الرقمي؛ يؤدي ذلك إلى تأثير سلبي ضخم على التضامن الإنساني. إذ يتوقف التواصل الإيجابي والبنّاء لبناء الجسور الاجتماعية بين الأفراد، ويزيد الانقسام بينهم. فالتوترات تزيد والثقة تتآكل والروابط الاجتماعية تتراجع؛ فيُعرقل القمع الرقمي قدرة الأفراد على التواصل والتعاون، وبالتالي يحد من إمكانية بناء تضامن إنساني قوي.

وبشكل مثير للاهتمام، يمكن ملاحظة كيف تنطبق أثار الاستبداد المُسلّح بالتقنية مع فكرة “سجون بانوبتيكون” التي طورها الفيلسوف جيريمي بينتهام في القرن التاسع عشر. يقترن مفهوم “سجون بانوبتيكون” بفكرة إنشاء بيئة تحفيزية للرقابة والانضباط الذاتي، حيث يعيش الأفراد في حالة دائمة من الوعي بالمراقبة والمراقبين المحتملين. في حالتنا، يجد الأفراد أنفسهم تحت مراقبة دائمة على الإنترنت، مما يجعلهم يمارسون الرقابة على أنفسهم ويمتنعون عن التعبير عن آرائهم. وهذا يشبه فكرة الرقابة الذاتية في سجون بانوبتيكون، حيث يُتوقّع من السُجناء أن يتحلّوا بالالتزام الذاتي بالقواعد والتصرف بانضباط دون الحاجة إلى ممارسة مراقبة فعليه مستمرة.

ومن المهم أيضًا أن نشير إلى أن القمع الرقمي يمكن أن يزيد من حدة الانقسام الاجتماعي. عندما يخشى الأفراد من التعبير عن آرائهم؛ فإنهم ينعزلوا عن الآخرين الذين قد يمتلكون آراءً مختلفة. هذا يمكن أن يؤدي إلى تفاقم التوترات والانقسامات داخل المجتمع ويجعل من الصعب على الأفراد العمل معًا لتحقيق أهداف اجتماعية واقتصادية وسياسية مشتركة. هذه الحالة من التفكك الاجتماعي تمنع تكوين تحالفات قوية للنضال من أجل العدالة والتغيير الاجتماعي والسياسي. تمامًا كما في فكرة سجون بانوبتيكون، يسعى السجان إلى تحقيق التقسيم بين السجناء أنفسهم وتحفيزهم على التبلغ عن بعضهم البعض.

على الجانب الآخر، فإن استخدام التقنيات الحديثة للمراقبة والرقابة بشكل متزايد من قبل الحكومات المستبدة يمنحهم القدرة على جمع وتحليل البيانات والمعلومات الخاصة بالأفراد والمجتمعات، بما في ذلك البيانات والمعلومات الشخصية، يُعَزِّز من قدرة الأنظمة المستبدة على تحليل سلوكيات النشطاء ومراقبتهم بشكل دقيق، ويُمكِن استخدام هذه المعلومات لتشويه سمعة النشطاء ونشر معلومات خاطئة عنهم بهدف التشكيك في مصداقيتهم وإضعاف تأثيرهم في الرأي العام. هذا يعتبر وسيلة فعالة للتأثير على سمعة النشطاء وزعزعة دعم المجتمع لهم.

كما يُمكِن اعتبار القمع الرقمي أحد الأدوات التي يُمكِّن للأنظمة المستبدة استخدامها للحفاظ على الهيمنة الاقتصادية وتعزيز النفوذ الاقتصادي للنخبة. حيث يسمح هذا النوع من القمع للأنظمة المستبدة بمراقبة الأنشطة الاقتصادية للمواطنين والشركات بشكل دقيق، ما يمنحها قدرة استثنائية على التحقق من مصادر وتوزيع الثروة وتوجيه الفوائد الاقتصادية نحو النخبة الاقتصادية على حساب الطبقات الفقيرة، مما يزيد من التفاوت الاقتصادي والاجتماعي. يمكن أيضًا استخدام هذه المعلومات لقمع النشاط الاقتصادي الذي قد يشكل تهديدًا لمصالح النخبة الاقتصادية.

في النهاية، يجب أن ندرك أن التقنية ليست سلاحًا في ذاتها، ولكن تصبح سلاحًا عندما تُستخدم بطرق تؤدي إلى قمع الحريات والتضييق على الحقوق. لذا، يجب على المجتمعات الوقوف معًا ضد هذا النوع من القمع والعمل على تعزيز حرية التعبير والخصوصية والنزاهة الرقمية. إن التغيير المطلوب لا يتعلق فقط بالتكنولوجيا نفسها، بل يتعلق بكيفية استخدامها وتوجيهها نحو خدمة الإنسانية وتعزيز العدالة والحقوق الأساسية للجميع.