نُشر هذا المقال أولًا على موقع سمكس، بمناسبة مرور 21 عام على اطلاق ويكيبيديا
وفّرت شبكة الإنترنت شبكة علاقات مُعقدّة بين مستخدميها لتنشئ عالماً قادراً على التعاون والمشاركة من دون عوائق تُذكر. منذ بداية انتشار الحواسيب الشخصية وإمكانية الاتصال بشبكة الإنترنت، كان الإنتاج المعرفي التعاوني حاضراً مع الكثير من الأفكار والفلسفات، كالبرمجيات الحرة والمصادر المفتوحة والمعرفة الحرة التي بدأت تظهر منذ ثمانينات القرن الماضي.
ومع ظهور الويب وتطوّره، فُتحت مجالات واسعة للتعاون في الإنتاج عبر الإنترنت. لم يتوقّف الأمر فقط على البرمجيات أو الوثائق المرُتبطة بها، بل تخطّاه لتكوين موسوعات عامة يُشارك في تحريرها عشرات الآلاف.
الإنترنت والويب وجمع المعارف الإنسانية
سبقت أفكار إنشاء موسوعة عامة من قِبل مساهمين مُتعددين التطوّر في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الذي ظهر في القرن الماضي. في القرن السابع عشر، كتب الفيلسوف والكاتب الفرنسي دنيس ديدرو، موسوعة إنسايكلوبيدي مع آخرين، كمحاولة لجمع المعارف الإنسانية وقتها، وربّما كانت هي الموسوعة الأولى في التاريخ التي يُشارك فيها عدّة مساهمين. ثمّ جاءت “ويكيبيديا” بعد قرون لتُطبّق فلسفة جمع المعارف الإنسانية والمعرفة الحرة المفتوحة، لتُعتبر بمثابة تطوّرٍ لفكرة الويب في ذاته كتقنية حملت في أعماقها فلسفة اجتماعية ومعرفية، كان يُفترض أن تحقق عدلًا ومساواة لو لم يتدخل رأس المال في تحويل أغلب تطبيقات الويب إلى نظام مركزيّ.
تأثرت “ويكيبيديا” بإسهامات سبقت تأسيسها كحركة برمجية حرة ومبادرة مفتوحة المصدر، سواء على مستوى فلسفة الإنتاج التعاوني المعرفي أو نوعية التراخيص التي تَحكُم نشر محتوى “ويكيبيديا” واستخدامه كموسوعة حرّة.
على سبيل المثال، في مجال البرمجيات وأنظمة التشغيل، بقيت البرامج الحرّة والبرمجيات مفتوحة المصدر وصمدت من الثمانينات حيث ظهر مشروع “غنو” (GNU) عام 1984 كأحد مشاريع “مؤسسة البرمجيات الحرة” (Free Software Foundation) بهدف إنتاج نظام تشغيل حرّ يشبه نظام التشغيل “يونكس” (Unix). عملت أيضاً “مؤسسة البرمجيات الحرة” على إنشاء رخص استخدام قانونية تضمن للمستخدمين الحريات الأساسية التي نادت بها حركة البرمجيات الحرة، كحرية الاستخدام وإتاحة الشيفرة المصدرية للبرمجيات والحقّ في إعادة التوزيع و التطوير. مشروع “غنو” ودمجه مع لاحقا مع مع “نواة لينكس” (Linux kernel) التي أطلقها لينوس تورفالدس في بداية التسعينات، يدلّ على نجاح النموذج التعاوني في تطوير المشاريع. والآن، يُشكّل هذا الدمج ما يُعرف بـ”توزيعات غنو/لينكس” أو ما يطلق عليه اختصاراً اسم “لينكس”.
المعرفة التعاونية تحتاج رُخص استخدام حرة
أصبحت “ويكيبيديا” الموسوعة الأشهر والأضخم في العالم، إلاّ أنّها لم تكن التجربة الأولى لتكوين وتطوير موسوعة تعاونية. فقبل انطلاق “ويكيبيديا”، كان هناك مشروع شبيه يحمل اسم “غنوبيديا” (GNUpedia)، وهو أحد المشاريع التي عملت عليها “مؤسسة البرمجيات الحرة” في نهاية التسعينات تقريباً. كانت هذه الموسوعة أقرب إلى المدوّنة الجماعية التشاركية، أكثر من كونها موسوعةً كالتي نعرفها الآن مع “ويكيبيديا”.
كان لمؤسِّسَي “ويكيبيديا”، جيمي ويلز ولاري سانجر، كذلك تجربة سابقة لتأسيس موسوعة على الإنترنت سبقت إطلاق “ويكيبيديا”، وهي موسوعة “نيوبيديا” (Nupedia) التي انطلقت في نهاية التسعينات في الوقت نفسه تقريباً الذي شهد بدء العمل على “غنوبيديا”. كانت “نيوبيديا” – التي عُيّن لاري سانجر مديراً لتحريرها – عبارة عن موسوعة يحرّرها خبراء ثم يراجعها مُتخصصون قبل نشر مقالاتها كمحتوى حرّ. مع بداية الألفية، توقفت “نيوبيديا” و”غنوبيديا” عن العمل، ودعمت “مؤسسة البرمجيات الحرة” مشروع “ويكيبيديا” ليصبح الموسوعة الأكبر على الإنترنت بمشاركة مئات الآلاف من المستخدمين/ات المتطوعين/ات في تحريرها.
في بداية الألفية أيضاً، ظهرت “مؤسسة المشاع الإبداعي” (Creative Commons)، وقد استلهمت الكثير من الأفكار التي نادت بها حركة البرمجيات الحرة، خاصة ما يتعلّق بفكرة “الترخيص بالمثل”. كتبت “مؤسسة المشاع الإبداعي” رخص استخدام للأعمال والمصنفات الإبداعية على اختلافها، بما يسمح بحرّية أكثر للناس في استخدام الأعمال المُرخّصة بها، بعيداً عن القيود التي تضعها قوانين حماية الملكية الفكرية وحقوق النشر والتأليف، قبل أن تلاقي لاحقاً انتشاراً واسعاً.
ومن جهتها، تُرخّص “ويكيبيديا” محتواها تحت رخصتين: “رخصة غنو للوثائق الحرّة” (GNU Free Documentation License)، و”رخصة المشاع الإبداعي”؛ وعلى ذلك، يحقّ للمستخدمين مشاركة أيّ محتوى على “ويكيبيديا” ونسخه وتوزيعه ونقله، التعديل على المحتوى ومزجه وتحويله والإضافة إليه، سواء كان ذلك لأغراض تجارية أو غير تجارية، بشرط نسب العمل لصاحبه بطريقة ملائمة، وتوفير رابط للترخيص، وبيان التعديلات التي أُجريت، وأن تكون الأعمال المشتقة خاضعة لشروط العمل الأصلي وترخيصه.
قامت الفكرة الأساسية إذاً على أن يُتاح للجميع إمكانية التعاون في الإنتاج وحرية في الاستخدام من دون قيود.
منصة مفتوحة للبوتات أيضاً
يطرح إريك ريموند في مقال “الكاتدرائية والبازار” (The Cathedral and the Bazaar: Musings on Linux and Open Source by an Accidental Revolutionary) أطروحة مركزية تقول بأنّه كلّما كانت الشيفرة المصدرية للبرمجيات متاحة على نطاق واسع للاختبار العام والتدقيق والتجريب، زادت سرعة اكتشاف الأخطاء وحلّها. في المقابل، يرى ريموند أنّ نموذج الكاتدرائية (الذي يعتمد على بيئة تطوير مغلقة) يستهلك قدراً كبيراً من الوقت والطاقة في البحث عن الأخطاء، نظراً لأنّ الكود المصدري يُتاح لعدد قليل من المطوّرين فقط. على الرغم من تركيز مقال “الكاتدرائية والبازار” على بيئة تطوير البرمجيات، إلاّ أن الأفكار التي وردت فيه تتخطى ذلك: فمنصّة “ويكيبيديا” التعاونية لإنتاج المعرفة تؤكّد نجاعة نموذج البازار الذي دافع عنه ريموند في المقال. واللامركزية في إدارة محتوى “ويكيبيديا” وتطويره كانت ولا تزال المحرّك الأساسي في إنتاج هذا الكمّ الضخم من المعلومات الحرة والمفتوحة للجميع.
تستخدم “ويكيبيديا” – والمواقع الشبيهة – في إدارة محتواها ما يُعرف بنظام “ويكي” (Wiki)، أحد أنظمة إدارة المحتوى على الإنترنت. ظهر مصطلح “ويكي” منتصف التسعينيات ليُشير إلى المواقع التي تُوفّر مجموعة من الخصائص، كالسماح للمستخدمين بتحرير المحتوى جماعياً بلغة ترميز بسيطة عبر المتصفّح، وسهولة إنشاء محتوى جديد أو تحديث المحتوى القديم وتعديله. وقد طُور نظام “ميدياويكي” (MediaWiki) الذي تعتمد عليه “ويكيبيديا” الآن لإدارة محتواها، في عام 2002، وهو نظام حرّ يخضع لرخصة “غنو” العمومية.
تتعرض “ويكيبيديا” لانتقادات عدّة حول مصداقية مقالاتها وموثوقيتها، وتظهر هذه الانتقادات في بعض الأحيان في لغات أكثر من الأخرى. بما أنّ نموذج تحرير “ويكيبيديا” يعتمد على الجمهور، فقد يؤدّي هذا ربما إلى تضمين المحتوى معلومات مضللة أو غير دقيقة أو غير صحيحة، وفي بعض الأحيان قد يحصل تخريب مُتعمّد لأسباب دينية أو سياسية. ولكن، على الرغم من ذلك، بقي نموذج عمل “ويكيبيديا” قادراً على تطوير نفسه وزيادة مصداقية مقالاته؛ وربما يكون الذكاء الاصطناعي أحد العناصر التي يُمكنها أن تؤثر إيجاباً في ذلك.
خلق تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي مساحة أخرى غير محدودة لتطوير إنتاج المعرفة التعاوني، فباتت المعرفة تُنتج من قبل الآلة والبشر على حدٍّ سواء، وأصبحت الآلة مساهمة في كتابة المقالات المنشورة على “ويكيبيديا” وتطويرها. ربّما تكون الخطوط الفاصلة ضبابية بين ما يقوم به الذكاء الاصطناعي والبوتات (bots) من جهة، وما يقوم به البشر من جهة أخرى، فنسبة التعديلات التي تقوم بها الآلة على مقالات “ويكيبيديا” مرتفعة للغاية.
تؤدّي البوتات الكثير من المهام الروتينية البسيطة على “ويكيبيديا” بشكل أسرع وأكثر تنظيماً من البشر، كإصلاح الأخطاء اللغوية. وفي أحيان أخرى تنشئ البوتات مقالات عبر كشط المعلومات من مصادر موثوقة ثم إعادة صياغتها على شكل مقالات “ويكيبيديا”.
من البوتات المستخدمة على “ويكيبيديا” بوت يُسمّى “كلو بوت” (ClueBot)، وهو مسؤول عن كم ضخم من التعديلات التي تُجرى على مقالات “ويكيبيديا”. يستطيع هذا البوت مكافحة التخريب الذي يمكن أن يحصل لمحتوى مقالات “ويكيبيديا” في ثوانٍ، بما في ذلك حذف الألفاظ النابية أو الصور غير الملائمة.
تعمل بعض المشاريع القائمة على تطبيقات الذكاء الصناعي، الآن، على كتابة مقالات “ويكيبيديا” وتطويرها من دون أيّ تدخّل بشري يُذكر. فقد طوّرت مجموعة من الباحثين في “معهد ماساتشوستس للتقنية” (MIT) برنامجاً يقوم بتحديث المقالات القديمة، بحيث يكتب محرّرون معلومات مُحدّثة عن موضوع مُعيّن دون أيّ تنظيم، ثم يبحث البرنامج في صفحات “ويكيبيديا” ويجري تحديثاً للمعلومات الموجودة في المقالات، ويكشف المعلومات المتضاربة ليعيد صياغتها بأسلوب يشبه أسلوب البشر.
شركة غوغل” بدورها دخلت على الخطّ، فقد طوّر باحثون فيها نظاماً قادراً على كتابة مقالات بطريقة “ويكيبيديا” عبر كشط النتائج العشرة الأولى لنتائج البحث في محرّك “غوغل” عن موضوع معين، ثم كتابة نصّ طويل عن هذا الموضوع. بعد ذلك، يأتي الدور البشري في تحرير النصّ المُنتج بواسطة البرنامج لحلّ مشاكل ركاكة الصياغات وما شابه. وربّما، مع تطور تقنيات التعلّم الآلي والذكاء الاصطناعي، لن تكون هناك حاجة لتحرير للمقالات من قِبل البشر.
أنشأ لارس جوهانسون، بوت إنترنت يحمل اسم “إل إس جيه بوت” (Lsjbot)، يستطيع كتابة 10 آلاف مقالة على “ويكيبيديا” يومياً، عبر كشط المعلومات من مصادر موثوقة مختلفة، ثم جمع هذه المواد معاً وإنتاج مقال قصير عن موضوع مُعيّن. يركّز هذا البوت بشكل أساسي على تطوير “ويكيبيديا” باللغة السويدية لإنتاج مقالات حول الكائنات الحية والجغرافيا. وتذكر بعض التقارير أنّ مساهمة البوت الذي طوره جوهانسون تمثّل 8.5% من المقالات على “ويكيبيديا”.
وعلى مستوى اللغة العربية، طُوَّر أحد مُستخدمي ويكيبيديا العرب ،أسامة خالد، “أوكي بوت” (OKBot)، الذي يتولّى مهمة التدقيق اللغوي في المقالات العربية المنشورة على “ويكيبيديا”، وهو مشروع يواجه عدداً من الأزمات التي تتعلّق بتطوير الخوارزميات القادرة على فهم النصوص العربية وسياقاتها.
لا يُنظر إلى “ويكيبيديا” كموسوعة مُتكاملة، فهي مشروع لا ينتهي ما دامت الإنسانية مُستمرّة ومعارفها تتطوّر. “ويكيبيديا” مشروع مستمرّ تتضافر فيه الجهود التعاونية التي يبذلها المساهمون/ات – حتى وإن كانوا في بعض الأحيان آلات – من أجل إنشاء معرفة متطوّرة حرّة ومفتوحة. “ويكيبيديا” مشروع لا يُفترض به أن يكتمل أبداً.